Monday, January 23, 2006

طريق العودة

احتضنه العجوز الممدد على الكنبة وقد بدا منهكاً من أيام عمره المنقضي. كان يرمق ولده بشغف المحب الذي لا يشبع من محبوبه والذي لا يريده أن يفارقه أبداً، لكنها مشيئة القدر الذي جعلت ابنه يقطن بعيداً عنه، على أن هذا البعد لم يؤخره أبداً من زيارته نهاية كل أسبوع كفرض واجب.
استقل حافلة صغيرة انطلقت بركابها، لكن فجأة توقف السائق بمحاذاة حافلة أخرى يعرف صاحبها قائلاً له: "أريدك أن توصل هذين الراكبين معك إلى بيروت، فأنا مسيرتي تنتهي هنا".
انتقل إلى الحافلة الأخرى.. وسرعان ما اكتشف أن سائقها شاب لا زال في سن الطيش، لم تعطه الأيام شيئاً من حكمتها.. تجلس بقربه إحدى الشابات "المودرن" كما يقال.. ومتى التقى "الطيش" مع "المودرن" بدأت تظهر المهارات!.. تارة يطلق بوق الحافلة على مداه دون سبب سوى لفت النظر إليه، وأخرى يرفع فيها صوت المذياع والأغاني الصاخبة إلى حد الجنون.. ثم لا يلبث أن " يشفِّط" أو يطلق من جهاز موجود معه صوتاً كالإنفجار.. والركاب يحدّثون أنفسهم "سترك يا رب"..
بدا الطريق طويلاً.. لكثرة الإنزعاج.. وما "زاد الطين بلّة" هو ذاك الطفل الصغير الذي صدف ركوبه في المقعد خلف ذاك الرجل، ولم يكفّ لحظة عن البكاء والصراخ.. حتى بدا الطريق كأنه طريق الجحيم.. فوجد الرجل نفسه يحدِّث صاحبه الذي يجلس قربه ولم يعرفه إلا للحظات "أنا لا أتوب عن ركوب الحافلات؟ لن أترك سيارتي بعد اليوم في مكان، وسآتي بها مهما كلّفني الأمر!" ابتسم الرجل الذي يجلس بقربه قائلاً "وأنا أيضاً فقد تركت سيارتي مع أبي.."
وانفتح الحديث.. وكان لهذا التعارف أن حوّل ذاك الجو الصاخب إلى جوٍ لطيف رغم الضجيج الهائل الذي يدور حولهما، إذ انسجما في حديث لطيف.. فالرجل كان صحافياً والآخر طبيباً تخرّج لتوّه وهو يعمل الآن كمتدرّب في إحدى المستشفيات..
وغاص معه في هم المستشفيات، وجده الذي كان في مأتمه بسبب خطأ من طبيب في المستشفى.. فقد أجري له تمييل في القلب وأُدخل بعده مباشرة إلى غرفة العمليات التي أُخرج منها ميتاً..
وانتقل الحديث إلى هموم الناس ومشاكل الحياة، وأخذت الأزمات التي يختلقها السائق الطائش من خلال قيادته المتهوّرة تتحول إلى فرص للتندّر على هذه الدنيا وما تجرّه على الناس من مشاكل.. وفي كل هذا الحديث كان التقارب يبدو واضحاً، والتفاهم يكاد يصبح السمة الرئيسية للحديث الخافت الذي كان يسرق حروفه من بين الزعقات المزعجة للمغنين الذين تنطلق أصواتهم مجلجلة من ذلك المذياع الذي لا يتعب.
توقفت الحافلة لينزل منها الرجل وهو يحدّث نفسه "يمكن لصحبة لطيفة أن تنسي جواً مشحوناً خانقاً"، ومرّ في فكره ما جعله يتردد في الصمود عند قسمه بأن لا يركب الحافلة بعد اليوم.
ماجدة ريا

No comments: