Tuesday, November 18, 2008

الحجاب بين الماضي والحاضر


عندما جبت بنظري في تلك القاعة، بدا واضحاً أن السمة الغالبة هي الحجاب، برغم كونها قاعة عامة، والحجاب فيها ليس واجباً. وعندما اتجهت نحو الشارع رأيت بشكل واضح نسبة ازدياد الحجاب، حتى داخل القرى بات للحجاب وجود فاعل ونكهة مختلفة.
أعود بالذاكرة إلى الثمانينات، في تلك الأيام، كان الحجاب يعيش غربة مريعة، وربما وجوده اقتصر على التقليد الأجوف إلا ما رحم ربي، فكان مجرّد غطاء للرأس درجت الجدّات والأمّهات على لباسه، ولم يكن له قواعد ثابتة، وما يهم هو وضع غطاء على الرأس.
في تلك الحقبة كان للكثير من الأحزاب والتيارات العلمانية أو المناهضة للدين سطوتها، وكان هنالك الكثير من الأفكار المغلوطة التي تُدسّ في المجتمع، وتجعل معالمه أقرب إلى معالم المجتمعات الغربية في بعض أفكاره، ولم تكن بعد نهضة الدين الثورية قد ظهرت بشكلها الجلي.
كان الحجاب غريباً، وعندما بدأت تجلّيات ثورة الإمام الخميني العظيم "قده"، وبدأ الالتزام بالحجاب الصحيح يظهر، كان يلاقي محاربة شديدة من قبل هؤلاء الذين كانوا يشكلون السواد الأعظم من الناس، إلا أن ظاهرة الحجاب المبني على أسس فقهية ودينية سليمة بقيت تتنامى برغم كل الحواجز التي كانت تواجهها، والتي لم تكن سهلة أبداً.
تلك الثورة المباركة التي رسمت للحجاب تفاصيله ومعناه، كانت ترسم مع ذلك صياغة الشخصية السليمة، ويأتي الحجاب كتفصيل من تفاصيل شخصية متكاملة الفهم والمعرفة لحدود وأبعاد هذه الثورة، سواء من الأخت التي أحبّت الالتزام بهذا النهج ومن ضمنه الحجاب، أو الأخ الذي سيكون راعياً لهذه المرأة التي تحتاج إلى مساندة ودعم وسط كل تلك التيارات المتلاطمة التي تهاجم حجابها الملتزم.
نعم في ذلك الوقت، كانت الدعوات إلى السفور والتبرج أسهل في النفاذ إلى المجتمع الذي كنا نعيش فيه، وكان الحجاب الملتزم يحارب كل هؤلاء من أجل إعادة بناء الإنسان، ومن أجل استعادة الهوية الإسلامية الصحيحة التي كادت معالمها تندرس، في مجتمع تتعدد فيه الثقافات، وتتلوّن فيه العادات، ولا بدّ لفكر ما أن ينتصر في فرض نفسه.
مذ وُجدت الثورة، التي أشعلت في الرؤوس مصابيح الإيمان الصحيح، كان خط الالتزام بالحجاب يسير بمنحى تصاعدي، وعدد المحجّبات الملتزمات يزداد يوماً بعد يوم بحمد الله تعالى ورعايته، وبفضل الفكر الذي كان يأتي دائماً بالحجة المناسبة للمكان المناسب، والذي ربّى من التزم به على قوة الإيمان بالله التي لا يمكن أن تُهزم، والتي كانت تُكسب صاحبها إرادة لا تقهرها الصعوبات، ولا يثنيها عن تقدّمها وتفاعلها في المجتمع أية مواجهة، فما كان لله ينمو.
لطالما لفت نظري في حينها عبارة كانت تُخط في كل مكان، يكتبها الشباب الملتزم "أختي حجابك أفضل من دمي" ليكون مسار الحجاب متصلاً بمسار المقاومة بشكل لا ينفصل عنه، وليكون متلاحماً مع هؤلاء الشبّان الذين نذروا أنفسهم لله، ومضوا في طريق الشهادة من أجل تحرير الوطن.
فقد كانت الثورة واحدة، والفكر واحداً، ليتكامل المرأة والرجل، الشاب والفتاة في هذه المسيرة التحرّرية الطويلة، فكان الحجاب ـ بما يعنيه من التزام المرأة الواعي وفهمها العميق لدوره ـ سنداً للمقاوم، وكان المقاوم ـ بما يعنيه من رفعة في الأخلاق وسمو في التضحية ـ سنداً للحجاب.
سارا جنباً إلى جنب، فكانا كالشجرة المباركة التي تؤتي أُكلها في كل حين، وكانت مسيرة مباركة من الله سبحانه وتعالى، أثمرت الانتصارات.
وبات الحجاب اليوم رمزاً للعزة والكرامة التي ارتبطت بإنجازات المقاومة، لأن هذا الحجاب كان له الدور الفاعل فيها، ولأن هذا الحجاب يُمثّل أم المجاهد، أو أخته، أو زوجته أو ابنته، التي تشاركه في درب النضال.
اليوم، ثبت للقاصي والداني صوابية هذا النهج، لكن الأجمل من ذلك هو أن هذا النهج بات نهج مجتمع، وباتت كل الأفكار والتوجهات الأخرى غريبة.
فالنهج الفكري الملتزم، بات له حضوره في مجتمعنا، حضوراً فاعلاً مؤثراً، جاذباً، لأن المجتمع تثبّت من صوابيته، فاتخذه نهجاً، ومن بقي غير ملتحق بهذا الركب من أبناء مجتمعنا فإنه ما عاد يحاربه، وإنما سعى جاهداً باتجاهه إلا من طبع الله على قلبه، فكان من هؤلاء الذين قال فيهم القرآن الكريم هم صم بكم عمي لا يفقهون، وهم قلّة قليلة.
حجاب اليوم بات أمتن بكثير من حجاب الماضي، وأفعل، بات يحرس الأمة وانتصاراتها لأنه هو الذي يُربّي ويُنتج ويؤهّل المجتمع المقاوم.
هذا لا يعني أبداً أن الحجاب لم يعد هنالك ما يتهدّده، على العكس، فهو ما زال مع المقاومة في خندق واحد لمواجهة التحدّيات الجسام في المحافظة على مسار المقاومة ونهجها القويم، لكنها تحدّيات زادت المحجّبات إصراراً على حجابهن، والتفافاً حول مقاومتهن.
فنرى المرأة المحجبة حاضرة بكل قوة، لترفع رأسها بحجابها أمام كل ما يتعرّض له هذا المجتمع من تهويل، ومن محاولة لحرف المسار.
ونرى المرأة المحجبة هي لب المجتمع الذي صمد وضحى وشجع وفدى خلال عدوان تموز الذي شنه العدو الصهيوني على لبنان عامة وعلى مجتمع المقاومة خاصة، وما رضخت فكانت أخت الرجال في الشدائد.
ونرى المرأة المحجبة هي الأم التي قدّمت أولادها شهداء، بوجه باسم، وجبين وضّاء، ينير لنساء العالم دربهن لتكون لهن مثلاً جديراً بالاقتداء.
في أيّامنا هذه السفور بات هو الغريب، والحجاب هو السمة الظاهرة، لكنه ليس حجاباً بصورة واحدة، بل تعدّدت أشكاله وصوره، فهل هذه الأشكال والصور تشكّل وجهاً واحداً لهذا المجتمع؟ أم تشكّل وجهاً جديداً للمواجهة مع هذا المجتمع؟
وماذا يمكن أن يكون نوع هذه المواجهة؟
هذا ما سنتحدّث عنه وعن تعدّدية أنواع الحجاب في الموضوع القادم ان شاء الله تعالى.
ماجدة ريا