Sunday, November 05, 2006

الغريب

رفعت وجهي إليه، أحدّق بالشحوب الذي اعتراه، وتكوينات وجهه التي تقلّصت، ما الذي حدث في القرية يا ترى؟! ما الخبر الذي يحمله؟ ضاقت عيناي وأنا أعدّ أنفاسي بانتظار ما سأسمع، واستعجلته في الحديث "ما الأمر؟!"
كان من عادته أن يبقى في زيارته لوالده الكبير في قريتنا البعيدة حتى الظهر، ولكن أن يصل في هذه الساعة المتأخرة، فلا بد أن شيئاً ما قد حصل.
انفلتت الكلمات من بين شفتيه بكل ما يمكن أن يحمل الهدوء من ألم: "عاطف أصيب بحادث"
"عاطف؟! وهل الأمر خطير؟"
صمت ثقيل ساد للحظات، ولا زالت نظراتي تلاحق تقاسيم وجهه المتجهّم "ماذا أصابه؟!"
"لقد... مات"
وكأني بي قد تجمّدت، فلا أقوى على الحراك، لحظات ثقيلة أخرى، تبعها انفجار في البكاء..
سرعان ما برزت صورته في مخيّلتي.
إنه ابن عمي، وابن عم زوجي، غاب سنوات طويلة في "بوسطن" في أمريكا قبل أن يعود إلى أحضان الوطن، ما زلت أذكر بوضوح ابتسامته العريضة التي لم تكن تفارق ثغره، وعينيه الحالمتين اللتين ترى فيهما حلم الكبار وبراءة الصغار رغم أنه ناهز التاسعة والأربعين من عمره، أما عطفه وحنانه على الجميع فلا ينضبان، وكأنه استمدّ من اسمه كلّ عطف الكون، وتردّد صدى كلماته في أذني "سأعود إلى لبنان لأستقرّ فيه بقية عمري، وأفتح شركة تأمين هنا، يكفي غربة، أريد لابني أن يعيش في وطنه..."
" يا الله!... كم كان مزهواً بنفسه، مقبلاً على الحياة..."
" إنه قدره!"
" كان سيعود من أمريكا في 5 تموز أليس كذلك؟"
" فعلاً كان قد حجز لعودته..."
" سبحان الله!... أي حادث هذا ؟"
" كان في حفلة توديع مع رفاقه هناك في مزرعة لصديقه، وأثناء تحليقه بطائرة شراعية وقع منها نتيجة عطل فني."
" يا إلهي!"...
كانت أمه موجودة معه في الحفل، وزوجته الأميركية وابنه، لكن أمه لم تستطع تحمل الأمر، ونُقلت فوراً إلى المستشفى. إنها صدمة قوية بعد حياة مليئة بالمتاعب، أما هنا فقد كانت صدمة الناس فيه كبيرة، بعد أن أعدّوا العدّة لانتظاره، ولسان حالهم يقول "ليتنا لم نُعد التعرّف عليه!... كان مميزاً في سفرته الأخيرة إلى الوطن في طريقة تعاطيه مع الجميع".
سريعاً كانت العودة إلى القرية، الوجوم على الوجوه، والحرقة في قلوب كانت تنتظر الحيوية التي رسمت صورته في أذهانهم، فإذا بالجمع يستعد لتلقي الصدمة تلو الصدمة.
كان إعلان الوفاة في الصحيفة الرئيسية في البلد يقول إن موعد الدفن يحدد بعد عودة الجثمان، ولكن ما حصل كان يكفي ليجعل من هذا الإعلان.. مجرد حبر على ورق.
الجثمان الذي ذهب أخواه إلى هناك من أجل إحضاره.. لم يعد.
لقد رفضت الزوجة أن تتخلى عما بقي لها من الشخص الذي أحبته بصدق: أنتم لديكم ذكرياتكم معه، ولديكم أهله وصوره، أما أنا فماذا سيبقى لي إن أخذتم جثمانه؟ اتركوه لي، فأنا سأزور الضريح لأضع عليه الورود كل يوم..."
هو يحمل الجنسية الأميركية ومتزوّج من أميركية وبالتالي يطبّق عليه قانون تلك البلاد فكان لا بد من الإنصياع لرغبتها تلك.
وكانت الجملة الأكثر ترداداً على الشفاه: "مات في الغربة، ودفن في الغربة..."
كان الجمع المنتظر في قريته يتساءل: "كيف سيدفن هناك؟ هذا ظلم! يجب أن يعاد إلى مسقط رأسه ويدفن بين أهله!...من سيقيم عزاءه هناك؟!"
والجواب جاءهم سريعاً عبر الصحف الصادرة في مدينته، والتي لم تتأخر في تخصيص مقالات عديدة عنه وعن مآثره...
لم يكن غريباً! لم يمت غريباً!...
"رجل الخير" كان لقبه، كل يوم كنا نكتشف باباً من أبواب الخير التي كان يقوم بها.. كنا نعرفه طيباً، محباً، عطوفاً، خيّراً... أما صدقات السر، والمشاريع التي كان يعد لها، فقد فاجأت الجميع.
المساجد التي شارك في بنائها، وكان آخرها مبنى كاملاً اشتراه على حسابه ودفع من ثمنه الدفعة الأولى ليكون مسجداً، والمساهمة في جمعيات لدعم المشرّدين وإطعام الجائعين.. هي بعض إنجازاته، حتى قيل عنه إنه لم يترك متشرداً واحداً إلا وسعى لتأمين مسكن له في مدينته تلك.
لم يكن غريباً، ولا وحيداً، فقد أتى إلى جنازته القاصي والداني من تلك البلاد، وفوداً وعائلات، وأمه وأخوته وحتى زوجته فوجئوا بهذا الحشد من البشر، وبهذا الكم من الفجيعة لدى هؤلاء الناس الذين أسهبوا في ذكر مساعداته وتقديماته، والجميع يبكيه ويطلب له الرحمة.
لم يمت غريباً، وإن كان قد دفن في بلاد الغربة، فروحه ترفرف في كل مكان.
ومع كل ذلك، يوم العيد كنت أنظر بألم إلى أمه التي وقفت عند مدافن العائلة، لم تجد قبراً تركع عنده لتبكيه بقربه، وضعت صورته على قبر أبيه وهي تقول: "يا ابني، يا غريب!"
ماجدة ريا