Saturday, January 31, 2009

هل تحاكم اسرائيل؟


جرت العادة أن تشنّ اسرائيل عدوانها، ومن ثم تتابع مسيرتها الإجرامية وكأن شيئاً لم يكن.
هي ليست المرّة الأولى التي ترتكب فيها اسرائيل المجازر، وإن كانت هذه المرة في عدوانها على غزة تبدو الأعنف، وكأن اسرائيل تسير في وتيرة تصاعدية في اتباعها الهجمات والحروب العدوانية، وفي جرأتها باستخدام الأسلحة المحرمة دولياً، حتى بدا أنها في حربها الأخيرة تستعملها بكل وضوح، ولا سيما قنابل الفسفور الأبيض التي فتكت بالمدنيين بشكل جلي، بالإضافة إلى عمليات التدمير الشامل والممنهج للبيوت والمؤسسات من دون أي اكتراث.
كما أنها ليست المرة الأولى التي يكون هنالك مطالبة على مستوى العالم من هيئات إنسانية أو منظمات حقوقية أو أشخاص بمحاكمة اسرائيل، لكن هذا الأمر كذلك يبدو أنه يسير بوتيرة تصاعدية أيضاً مع تصاعد الإجرام الصهيوني من جهة، ومع الزيادة في الوعي العام بهذه القضايا الحقوقية على مستوى العالم من جهة أخرى.
لقد قُدّمت في السابق دعاوى أمام المحكمة الجنائية في لاهاي وأمام العديد من المحاكم الأوروبية ضد مسؤولين سياسيين وعسكريين اسرائيليين، ومع أنه لم يتسنَّ لتلك المحاكم محاكمة هؤلاء حتى الآن، إلاّ أن هذه الدعاوى أربكت إلى حد ما هؤلاء المسؤولين وجعلتهم يعزفون عن الذهاب إلى أماكن يمكن أن يلاحقوا فيها بسبب جرائمهم.
من الواضح أن اسرائيل لم تكن تعير أي اهتمام لهذه التحركات القضائية، وتعتبرها ضعيفة إلى حد لا يؤثّر فيها، فكانت تزداد مضياً في إجرامها، وهي تدرك أن المرجعية لمقاضاة الدول هي منظمة الأمم المتحدة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة الأميركية، والتي لا يمكن أن تُمِرَّ فيها قراراً يؤذي اسرائيل فتتحصّن دائماً بالفيتو في مواجهة أي قرار ضد اسرائيل، وهكذا يتصوّر هذا الكيان الغاصب أنه سيبقى في حلّ من أي مساءلة قانونية، أو على الأقل يستطيع التملّص منها حتى لو جرت.
ولكن الذي يحدث اليوم يشير إلى أن المعنيين برفع مثل هذه الدعاوى، هم أكثر تنبّهاً من أي وقت مضى، حتى أن ذلك أعطاهم المزيد من الإصرار والاندفاع للبحث عن طرق بديلة لمحاكمة اسرائيل، وقد تبيّن أن هنالك إمكانية كبيرة لملاحقة المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين المتهمين بجرائم حرب أمام العديد من المحاكم الأوروبية التي تجيز قوانين القضاء فيها النظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أياً كانت جنسية مرتكبها، أو مكان ارتكابها كما هو الحال في اسبانيا، هذا بالإضافة إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي برغم أن اسرائيل لم توقع على المعاهدة المؤسسة لهذه المحكمة، وهذا الأمر بحسب المحامي الفرنسي جيل ديفير ـ الذي صاغ نص الدعوى التي تقدّمت بها تسعون منظمة فرنسية أمام هذه المحكمة لمقاضاة اسرائيل بسبب جرائم الحرب التي ارتكبتها في عدوانها على غزة ـ قد يطرح صعوبة شديدة، لكن في المقابل هنالك كثير من العسكريين الإسرائيليين يحملون جنسيات مزدوجة بما فيها الجنسية الفرنسية, وهذا يمكن أن يسهل مقاضاتهم في البلدان التي يحملون جنسياتها.
وقد تزامن رفع هذه الدعوى مع تحرّك أكثر من 320 هيئة ومنظمة عربية وإقليمية ودولية تسعى إلى تقديم كل الدعاوى الممكنة في هذا الشأن، ومنها دعوى أمام هذه المحكمة، وأخرى أمام القضاء الإسباني.
وفي المغرب طالب المحامون وزير العدل المغربي بتضمين القانون المغربي بنوداً تمنع المغاربة الإسرائيليين من الدخول إلى المغرب باعتبارهم مجرمين مشاركين في الاعتداء على الفلسطينيين.
كذلك قدم السفراء العرب في الوكالة الدولية للطاقة الذرية طلباً للتحقيق في استخدام إسرائيل ذخائر تحتوي على اليورانيوم المنضب في حربها على سكان قطاع غزة، برغم أنه يُخشى أن يكون مصير هذا التحقيق كالذي أجرته الأمم المتحدة بعد عدوان تموز في لبنان، وهو الإخفاق في إيجاد أدلة على ذلك.
أما الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون فقد طالب إسرائيل بتقديم تفسير كامل لقيامها بقصف مقرات الأمم المتحدة في قطاع غزة، ومحاسبة المسؤولين عن ذلك، لكن يُخشى أيضاً توقف الأمر عند حدود المطالبة، ولا سيما أن اسرائيل سبق لها أن فعلت ذلك في عدوان تموز على لبنان ولم تحاسب.
مع كل هذا الحراك القضائي باتجاه مقاضاة اسرائيل على جرائمها، قال رئيس المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان راجي صوراني إن 57 باحثا ومتخصصا في القانون "يعملون الآن على توثيق كل ما حدث من الوقائع لبناء ملفات قانونية لاستخدامها لدى النيابة العامة في أي مكان"، لأن التوثيق القانوني يحتاج وقتاً وجهدا كبيرين، لكن المؤمنين بعدالة القضية يعملون بلا هوادة في تلك الملفات التي سيحتاجها كل الذين تقدموا بدعاوى ضد اسرائيل.
كما أكدّ صوراني أن استخدام آليات القانون الدولي الإنساني أدخل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في "بعد رابع جديد يدعم الصراع السياسي والكفاح المسلح، الذي هو حق مشروع"، وقد اعترفت بذلك منظمة واتش الإسرائيلية غير الحكومية معتبرة أن الفلسطينيين نجحوا في جعل "قادة إسرائيل من ساسة وعسكريين، أسماؤهم ملوثة مثل ميلوسوفيتش وبينوشيه".
والجدير بالذكر أن عدد المسؤولين الإسرائيليين من العسكريين والسياسيين المطاردين أمام المحاكم في دول متعددة بلغ 87 شخصية.
من الواضح أن رد الفعل الإسرائيلي لم يستطع أن يخفي تأثّرها بهذه الاتهامات التي حاولت دفعها عنها بشتى السبل، لكن يبدو أنها بدأت تدرك أيضاً أنها ستسبب لمرتكبيها العقاب، لذا فهي تستعد لمواجهة هذه القضايا التي رُفعت ضد مسؤولين في الحكومة والجيش الإسرائيلي، وقد منعت الكشف عن الضباط الإسرائيليين الذين شاركوا بالعدوان الأخير على غزة، وسمحت لكل من يشتبه في احتمال تعرضه لملاحقات في قضايا جرائم حرب باستبدال جواز سفره بآخر مزور. كما أنها أعلنت أنها ستعاقب كل من يدلي بمعلومات تساعد على توريط الإسرائيليين في جرائم حرب بالحبس عشر سنوات، بالإضافة إلى أنها شكلت لجنة لمتابعة الموضوع وإعطاء الاستشارات القانونية.
كل هذا الإرباك على الساحة الإسرائيلية يعني أن مثل هذه الإجراءات القانونية سيكون لها الأثر الفاعل، وأن اسرائيل من حيث لا تشعر قد وقعت بشر أعمالها.
قد لا تتمكن هذه المحاكم من إحضار المسؤولين الإسرائيليين ومحاكمتهم، لكن يكفي هؤلاء في المرحلة الحالية أنهم سيعيشون في حالة من عدم الاستقرار النفسي، وعدم الأمان، وسيكونون مقيّدين في الحركة، كل ذلك سيكون مرحلة أولى من مراحل دفع الحساب على ما ارتكبوه من جرائم شنيعة، وأن أسماءهم اقترنت بما تستحق من ألقاب مجرمي الحرب، على أن تتمة الحساب قادمة لا محالة.
ماجدة ريا