Friday, January 27, 2006

القرار للصندوق

... وصدمت إسرائيل!!! وذهلت أميركا!!!
لقد جرت الإنتخابات الفلسطينية التشريعية في أجواء هادئة، وتحت رقابة محلّية ودولية مشدّدة، وقال الشعب الفلسطيني كلمته: نعم، نعم للمقاومة، وفي لحظة الحسم أعلنت النتائج وأعلن الفوز الكبير لحركة المقاومة الإسلامية حماس.
هذا ما أراده صندوق الإقتراع، وهذا هو قرار الشعب الفلسطيني بمعظمه، وهذا ما لم ترده أميركا ولا إسرائيل، وهذا ما لم يتوقّعوه أبداً، فكيف حدث ذلك في غفلة منهم؟!!!
ظنّوا أنهم بالتضييق والحصار، بالإرهاب وقتل قادة المقاومة، يروّعون الناس ويبعدوهم عن هذا الخط المبارك، هذا لأنهم لم يقرأوا كلمات الإمام الخميني العظيم (قدس سره) " اقتلونا فإن شعبنا يعي أكثر فأكثر".
إن الإرهاب الذي تمارسه إسرائيل على الشعب الفلسطيني لن يثني هذا الشعب الأصيل عن قول كلمته الحرة في مواجهة إرهابهم، في التحدي والصمود، في الوقوف مع الحق، والنضال من أجل استعادة حقّهم المسلوب.
أما كيف ستتصرف أميركا وإسرائيل والدول الغربية مع هذا الموقف الجديد؟!!
إنهم مجبرون على الرضوخ لأحكام الديمقراطية، واحترام كلمة شعب اختار ممثّليه، ومع إعلان النتائج كان الرئيس الأميركي يسارع إلى إعلان موقف بلاده الذي ملّ الناس سماعه : "على "حماس" نزع سلاحها والتحوّل إلى حزب سياسي، والتخلّي عن محاربة إسرائيل...." وتناغم معه كالعادة وزير خارجية بريطانيا وفرنسا... ومن يسمع مثل هذه الحملات يظن أن المقاومة الإسلامية هي التي تعتدي، وتحتل، وتقتل وتهدم وتدمر و.......
يا للغرابة!... وربما لم يعد غريباً ما نسمع وهو ما يردّد في كل لحظة ، وفي كل يوم: يجب نزع سلاح المعتدى عليه، حتى لو كان بندقية أو صاروخاً بل ربما يأتي يوم يفكّرون فيه بإزالة الحجارة من الطرقات لأنها سلاح الغالبية لهذا الشعب المظلوم لتسرح إسرائيل وتمرح بدبّاباتها وطائراتها حيث يحلو لها دون أن تزعجها طلقة رصاص!
فليدعموها مادياً بالطائرات والدبابات وأحدث الأسلحة..
وليدعموها معنوياً بالتصفيق لها كل يوم على أنها بريئة وأن كل مقاومة تقف في وجهها هي الإرهاب..
وليدعموها بقدر ما يشاؤون! فلن يستطيعوا أن يقلبوا الحقائق، وإن زعموا ذلك، ولكن يجب أن لا ينسوا أن الحق مدعوم من الله سبحانه وتعالى وهو أقوى الأقوياء وأحكم الحاكمين، وأن الشعب إذا أراد الحياة يوماً فلا بد أن يستجيب القدر.
ماجدة ريا

لمن المستقبل؟

أزهرت المقاومة انتصاراً عام ألفين، وأثمرت في قلوب المحبّين نضوجاً ووعياً، ربما هي لم تقلب الموازين عندما انتصرت في الموقع الذي لم ينتصر فيه أحد قبلها، إنما بلورت حقيقة لم يستطع أحد قبلها الوصول إليها، وسطّرت بدماء الشهداء وآلام الجرحى وصبر الأهلين على كلّ ذلك معادلة جديدة ليس من السهل قلبها بكثرة الكلام واحتدام المواقف أياً تكن، محلّية كانت أم إقليمية، أم دولية... ما كتب بالدماء والآلام لا يبدّله أي مستجدّ من الأحداث مهما ظنّ البعض أنه يملك نهاياتها، باعتبار أنه طوى تحت جناحه قراراً أممياً ترأسه أميركا! ومن يقف تحت جناحها من الدول، أو من يقف على الحياد خوفاً على مصالحه. معادلة تقول "إن الحق منتصر، وإن الباطل كان زهوقا" مهما طالت الأيام، ومهما استكبر من استكبر وطغى من طغى، فقد طغى فرعون من قبل، وطغى الأباطرة والقياصرة، وكل العهود الغابرة والأمم السالفة تنبئنا بنهاية الظالم وظلمه وانتصار الحق عندما يجد هذا الحق من يعرفه ويصونه بالدماء.
نحن نعرف حقنا جيداً، ودفعنا مقابله الكثير من المعاناة، من الدماء الزكية التي لم ولن تكون رخيصة يوماً، لنضيّع ما حقّقت من إنجاز عظيم، ومن يستنير بضياء الشمس ونورها ودفئها، لن يتركه ليعود إلى الظلمات، حتى لو كلّفه ذلك الحياة!
يقولون الخروج عن الشرعية الدولية وأنا أقول من الذي صاغ الشرعية الدولية ومن الذي وضع حدودها، لقد استوقفني مقطع صغير في كتاب القانون العام الدولي للدكتور عبد الباقي نعمة عبد الله وهززت رأسي عنده طويلاً وهو يقول "الدول تلتزم بقواعد القانون العام الدولي بإرادتها وتخضع لأحكامه خضوعاً ذاتياً مع ملاحظة التطور الحديث الذي أدى إلىسيادة هيئات دولية تمارس دور الرقيب على الدول وتقوم بدور السلطة العليا أو الدولة التي هي فوق الدول، خصوصاً مجلس الأمن الدولي الذي لو قُدّر له أن يمارس وظائفه بموضوعية وعدم تحيّز وعدالة، استناداً إلى ميثاق الأمم المتّحدة، ولو ابتعد عن المحاباة والضغوط على الدول الصغيرة ولو تخلّى عن حق الفيتو المقرّر للخمسة الكبار، لأمكن القول إنه يمثّل الحكومة العالمية التي تخضع الدول لإرادتها وتؤدّي إلىاستقرار التعامل الدولي."
إذاً عن أي شرعية دولية يتحدّثون مع كلّ هذه المعوّقات التي تحول الشرعية الدولية ومجلس الأمن بالتحديد إلى شريعة الغاب حيث القوي يقتل الضعيف، ويذله، ويفعل ما يحلو له بحجة الشرعية الدولية؟ وهل مجلس الأمن أنشئ للحفاظ على الدول الكبرى ومصالحها؟ أم لحماية المظلوم وإعانته؟!! وأي استقرار سيصل إليه العالم مع حرّاس الأمن وعلى رأسهم أميركا؟ وأي شرعية هذه التي يفرضونها؟
هل الشرعية التي تجاوزتها أميركا ذاتها ضاربة بها عرض الحائط، مستبيحة كل الأعراف عندما اجتاحت بجحافلها العراق؟ وهل ننسى صور الأطفال والنساء والشيوخ والدمار.. والتي ما زالت تتوارد حتى الآن؟!
أم هي الشرعية الدولية التي تبقي كل القرارات المتعلّقة بإسرائيل في أدراج مغلقة لا يتذكّرها أحد؟!
أم ربما هي الشرعية الدولية التي تبيح لفرنسا التلويح باستخدام السلاح النووي من أجل تأديب الآخرين؟!!!!
الطاقة النووية ممنوعة للأغراض السلمية؟!! مسموح أن تستخدمها أميركا العاقلة والمهذّبة سلاحاً في هيروشيما؟! وأن تلوّح باستخدامها مجدداً فرنسا؟!
نعم... هذه هي الشرعية الدولية التي على البشر الإقتناع بها، ومن لم يقتنع تستطيع أميركا وفرنسا إقناعه بما تملك من قوة وأدوات... ولا من رادع أو وازع!
الشرعية الدولية هي حكم الدول الكبار المتسلطة من أجل تحقيق مصالحها، ونشر أفكارها من خلال نموذج الديمقراطية الذي رأيناه في أفغانستان والعراق... والسيف المسلط على رقاب العباد بما يملكون من كل وسائل التدمير والعنف والإرهاب!...
ولكن من قال إن هذه الشرعية هي شرعية أصلاً؟ ومن قال إن الموت والدمار والإعتداء يرهبنا؟ أو ينسينا مبادئنا وحقّنا؟ ومن قال إنهم الأقوى بكل ما يملكون؟
الله جلّ وعلا علّمنا، والتاريخ أكّد لنا أن الحق هو السلاح الأقوى والأمضى، ، أما الشر.. فله أن يأكل نفسه، وأن يرتدّ على صاحبه، وإذا كانت أميركا تظن بأننا لا نسمع صراخها مما أورثت لشعبها بفضل حكومتها المتهوّرة، فإننا نقول لها إننا نسمع ونرى، وقد خرجت سابقاً مرغمة من فيتنام، وها هي تود لو تخرج اليوم قبل الغد من العراق وما يؤخرها هو البحث عن طريقة تسمح لها بحفظ ماء وجهها، وإسرائيل خرجت مكرهة من جنوب لبنان...
لن يقنعونا أن القوة المتسلطة هي التي تصنع المستقبل، وإن كان بعض الأشخاص قد درجوا على الوقوف مع الأقوى على أنه رابح مؤكّد، دونما الأخذ بعين الإعتبار هوية أو مبدأ، فينقلب من جانب إلى جانب، دون اكتراث لثوابت أو وقوف عند مبادئ.
الأساس هو أن يملك الإنسان مبدأ، ويحمل فكراً، إما يحيا به أو يموت دونه، ويستمرّ من بعده، أمّا القوة فعندما تتمثّل بالشر فإنها وإن استطاعت أن تؤذي فإنها قاتلة لنفسها، وسبب هلاك من يتّبعها، والمستقبل يبقى لأصحاب الحق حتماً، لأن الله سبحانه وتعالى مع الحق.
ماجدة ريا.

Monday, January 23, 2006

الحل الأمثل

كل يبحث عن فرصة التعبير عن الذات وإثباتها ، وهذه الذات يمكن أن يرقى بها صاحبها إلى مستوى الإهتمام بالبشرية بمجملها، وإلى الإنسانية بكل معانيها.
وهناك الذات التي تبقى محدودة بالأفق الشخصي والفردي وإن ارتقت فهي ترتقي إلى المجموعة، وتعصب عينيها عما هو حولها فترى ما يناسبها فقط.
هي مستعدة لأن تقتنص أي فرصة يمكن أن ترسم لها كياناً!
تلك الأصوات التي ارتفعت في لبنان مطالبةً بسحب سلاح المقاومة(!!) لم تكن مفاجئة، ولا كانت مفاجئة أيضاً الحدة التي يتّسم بها خطاب هذه القوى مؤخراً، وهي تنظر بعين الأمل إلى المجتمع الدولي المنكفئ تحت جناح الرئيس الأمريكي _ ومن ورائه "إسرائيل" _ وترى أن هذا وتلك أصبحا سنداً مهماً لها لا يمكن تجاهله، حتى الأقطار العربية الشقيقة التي تسير وراء السياسة الأمريكية، تسير وهي مطأطئة الرأس لا تكاد تسأل عما يجري ولسان حال الجميع: لا نستطيع أن نقف بوجه أحد؟!
سابقاً قيل كلام مماثل للمقاومة الإسلامية عند بداية الحرب مع "إسرائيل"، وجوبهت محلياً ودولياً ، لم يؤيدها سوى النذر القليل. وبهذا النذر القليل استطاعت صنع المعجزة التي لم تقوَ على صنعها الجيوش العربية مجتمعة! ومضت بثبات منتصرة بإذن الله تعالى، وقد شهد بذلك القاصي والداني.
لم يتغير شيء في الهجمة على وجود المقاومة ـ التي لم يرد لها أن توجد من الأصل ـ ولو كان باستطاعتهم القضاء عليها قبلاً لفعلوا، هم لم يوجدوها وإرادتهم في إيجاد الشيء وعدمه لا زالت هي هي، والضغوط مورست سابقاً ولا زالت وستستمر على مدى التاريخ. ولكن هل تراهم سمعوا سيد الشهداء السيد عباس الموسوي رضوان الله عليه وهو يقول "اقتلونا فإن شعبنا يعي أكثر فأكثر".
لم يتغير شيء، وأمة المقاومة الإسلامية هي أمة تكبر وتعظم ويشتد ساعدها بالتضحيات وبالشهداء، وتصرخ بأعلى الصوت لا للإملاءات الأمريكية الإسرائيلية وإن جمعت حولها العالم كلّه، نحن قوم على حق ويكفينا أن الله هو الحق المطلق وكفى، ولو لم يبقى معنا سواه، يكفينا الله وكيلا.
مشروع الهيمنة على المنطقة بات واضحاً ومعروفاً للجميع، وأن العملية ليست كما تصوّر للبعض، بأنها مجرّد عملية تسليم سلاح وستنعمون بالأمن والاستقرار إلى جانب الدولة المغتصبة لحق الشعوب والتي لا زالت وأمام أعين المجتمع الدولي "الموقّر" تمعن في القتل والتدمير في صفوف الشعب الفلسطيني دون وازع أو رادع، ولم يردعها عن فعل ذلك في لبنان سوى توازن الرعب التي تفرضه عليها المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان.
والكيان الصهيوني سعى ولا زال يسعى في كل محفل دولي أو غيره وفي أمريكا بالخصوص ليصل إلى كسر القوة الرادعة في لبنان كي يحلو له فعل ما يشاء.
ومن السخرية بمكان أن بعض ضيّقي العقول، أو أصحاب المصالح الآنية يتوهّمون أن "إسرائيل" مرتكبة الفظائع الإنسانية، مبيدة الشعوب لتبني مجدها على دمائهم، ستأتي لهم بالمنّ والسلوى، وستبني لهم لبنان المستقبل.. لبنان الصداقة والمودة، أو أنهم يريدون أمن العبيد مع الأسياد الأمريكان.. أو أن أمريكا مهتمة بصداقاتهم كي تطيح بغيرهم وتنصًّبهم رؤوساً ونقطة على السطر ؟
من الغباء أن يبقى بشري على وجه الأرض وخاصة في منطقتنا لا يعرف أن القاموس الأمريكي يقول : "إسرائيل" ثم "إسرائيل" ثم "إسرائيل" ومن بعدها الطوفان. فإلى أين هؤلاء هم ذاهبون؟ إلى أحضان "إسرائيل" يستنجدون بها ممّن يريد أن يحميهم منها دون مقابل؟
أي عنجهية مدمرة هذه، إنها حتماً ستقتل صاحبها قبل غيره. ولكن ألم يتّعظ هؤلاء من ما جرى على العملاء؟ كيف عاملتهم "إسرائيل"، ورفضت دمجهم بشعبها واعتبرتهم شعباً درجة ثانية أو أقل؟! وهم الذين استماتوا في الدفاع عنها ؟
فما بالكم بمن يريد أن يضع البلد بين يديها، منزوع السلاح، مطأطئ الرأس، أي ثأر ستثأره عندها؟؟!
أما أمريكا فلديها مشاريعها الخاصة في المنطقة وليست خافية على أحد، الهدف الثاني إيران وسوريا وهذا بات واضحاً ومعلوماً، وما على السيد الأمريكي سوى أن يطلق صفّارة الحرب لتندلع، وما هذا التردد ؟ يريد أولا أن يضمن أمن "إسرائيل" لأنه يعرف بأن المقاومة الإسلامية في لبنان لن تقف مكتوفة اليدين. وبذلك يصبح الهدف الأمريكي واضحاً، فهو يريد أن يضمن الأمن لشمال الكيان الصهيوني الغاصب قبل أي خطوة أخرى.
هذا الإهتمام بلبنان ليس اهتماماً بالأشخاص الأصدقاء لواشنطن كما يتصورون، بل بمصالحها الخاصة، وفي اللحظة التي تجد بأن أصدقاءها يجب سحقهم فلن تتأخر في ذلك أبداً.
أليست هي من غذّى الطالبان في أفغانستان؟ وصدام في العراق؟ وعندما أينعت ثمارهم قطفتهم دون أدنى مشقّة!
وأنتم يا أعزائي وأخواني في الوطن، لستم سوى مطيّة تريد أن تمتطيها أمريكا و"إسرائيل" لتحقيق غاياتهما وتأمين أمنهما، ويذبحونكم عند أول مفترق طرق !
والمخطط جاهز لدى أمريكا، وتصميمها على هذه المنطقة واضح، وتريد أن تنفّذ ما بدا لها.
ولكن ليكن معلوماً أن شعار المقاومة الإسلامية هو "لئن خيّرنا بين السلّة والذّلة فهيهات من الذّلة " طالما فينا مقاوم فيه عرق ينبض .
ماجدة ريا

لوحة من السماء



انقضى النهار مثقلاً بمتاعب الدرس وهموم الإمتحانات، إنها الفترة الأصعب من السنة، حيث تنقضي أيامها ثقيلة طويلة، لا يؤنس وحشتها سوى رفقة كتاب توحّد معها حتى بدا كأنه لا ينسلخ عنها أبداً.
وقفت في نافذة غرفتها المطلّة إلى الشرق، لكنه ليس موعد شروق الشمس!... أيام تشرين تدغدغ الأنفاس بنسمات تشتدّ قسوتها حتى تكسر كل حواجز الجسد فتلامس أعماقه وتدعوه إلى الحياة.. هذه النافذة كانت متنفّسها إلى الحرية فيسرح بصرها إلى اللاّ محدود، وتقف عند حدود قمة الجبل حيث ترى منه شروق الشمس مع إطلالة كلّ صباح. وبينما هي تحدّق في مجموعة الغيوم التي اصطفّت عند أطراف ذلك الجبل بدأ حرف من النور المتلألىء البياض بالظهور شيئاً فشيئاً حتى اكتمل بدراً أبيض برّاقاً... إنه القمر في ليلته الخامسة عشرة.
ما هي إلاّ لحظات حتى تلقّفته غيمة كبيرة سارعت في إخفائه وراءها، كانت تنتظره قرب الجبل كعاشقين تواعدا ليلتقيا... إنها كبيرة، رمادية اللون، تميل إلى الإسوداد ... تتمازج فيها الألوان، فتفتح تارة وتشتد أخرى والقمر يظهر من بين ثقوبها فلا تلبث أن تخفيه في ثناياها كأنها تخشى عليه من التيه في أحضان غيمة أخرى!
حتى إذا ما اختفى خلف لونها الرمادي تجلّت بنوره مضيئة كأنها مصباح كبير عُلِّق في السماء... وتلألأت أطرافها وكأنها أسطر من ذهب مرصّع فبدت كإكليل نور يُتوِّج جبهة العروس.
انتبهت من وقفتها تلك على صوت أمها الحنون التي كانت دوماً تتفقّدها لتطمئن عليها وتحضر لها في كل مرّة كوباً من الشاي، أو من عصير الفاكهة قائلة: "هذا سيزيد من نشاطك يا عزيزتي." تشكرها وتعود لمتابعة دروسها بجد..
أشرقت شمس نهار جديد، والغيوم لم تعد متلاصقة بل توسّعت وانتشرت حتى كادت تغطي صفحة السماء.. جلست على شرفة غرفتها ترشف فنجاناً من القهوة، وتستجمع نشاطها قبل أن يبدأ نهار الدرس الطويل.. وفي جلستها تلك، وبينما احتضنت في عينيها القرى المترامية الأطراف، استقرّ نظرها من جديد عند أطراف ذلك الجبل، ثم ثبّتتها في السماء علّها تحلّ بعضاً من رموزها سيما وأنها قد بدت لها مثل لوحة أسطورية خرجت من العصور الغابرة، أو من حكايات الجدّات التي كانت تُروى...
ماردٌ أسود، يده ممدودة تحمل طبقاً مملوءاً على شكل دائرة منتفخة، ماردٌ آخر له كرش كبير قد أوسع الخطى وراءه كأنه حارسه! وحشود مختلفة تسير وراءهم، تراصَّت على بعضها البعض حتى بدت كتلة واحدة، أنهم موكب هذا المارد الذي ربما يحمل هديّة إلى ملك عظيم!...
أمامهم بحر كبير لا يخشونه بل هو بصفاء ازرقاقه يخشى سوادهم وظلمتهم فيوسعون الخطى فيه غير آبهين بسير طويل. من حولهم أشخاصاً يلهون، واحد يقفز هنا، وآخر يقلب هناك.. وغيره يركض كأنه في سباق! بينما ينام أحدهم على بساط الريح فيحمله إلى البعيد البعيد... كلهم يبتعدون، فيصبحون كأوراق خريفية، ملوّنة، مبعثرة في السماء منها الأحمر، ومنها الأصفر ومنها ما زال يحافظ على بعض الإخضرار الباهت حتى يعود أزرق متماهياً مع لون السماء.
كل هذا يجري حول هذا المارد الأسود الذي يبدو أنه غير آبه بشيء، بل يجدّ المسير متابعاً موكبه الجليل بكل أُبّهة وجلال.. فإلى أين يخطو هذا المارد العجيب.. برفقة هذا الجيش الرهيب؟!... وما هي تلك الإشارات التي تكبر وتصغر وتتبدّل ألوانها وكأنها عروس تستعرض فساتينها، ثم تختفي وراء الستار، خلف تلك الحشود التي لا زالت تمضي في مسيرها، فتنجلي صفحة السماء من ورائهم، تاركين فيها آثار أقدامهم، فلا تستعيد لونها الصافي بل تبقى معكّرةً بلون رمادي قاتم كأنه الغبرة المنطلقة من حوافر الخيول على طريق قروي ترابي مهمل.. وتبقى السماء كئيبة لا تستعيد هدوءها بسرعة، وكأنها ما زالت منبهرة بضوضاء هذا الجيش الرهيب.
وتساءلت في سكون "يا إلهي ... ليل واحد يفصل بين صيف وخريف!... ويكون نهاية لسلسلة أيام متواصلة من إشراقة الشمس في سماء صافية الأديم لا يعكِّر صفوها سوى بعض العصافير الصغيرة أو بعض الحمائم التي تطير هنا وهناك... فتبقى زرقاء نقية لتفسح المجال أمام ذلك القرص المتوهِّج أن يلهب الناس بحرارته... وينتهي كلّ ذلك في ليل واحد!... وصباح يحمل معه التّغيير المفاجئ. إنها اللحظة التي تفصل بين انتهاء حدث وإعلان آخر! "...
ابتسمت لفكرة خطرت في بالها مع توارد هذه الأفكار "قريباً تأتي لحظة تفصل بيني وبين سنوات الدرس الطوال، وتعلن عن نجاح يؤسس لمنهج جديد في حياتي!.."
ماجدة ريا

طريق العودة

احتضنه العجوز الممدد على الكنبة وقد بدا منهكاً من أيام عمره المنقضي. كان يرمق ولده بشغف المحب الذي لا يشبع من محبوبه والذي لا يريده أن يفارقه أبداً، لكنها مشيئة القدر الذي جعلت ابنه يقطن بعيداً عنه، على أن هذا البعد لم يؤخره أبداً من زيارته نهاية كل أسبوع كفرض واجب.
استقل حافلة صغيرة انطلقت بركابها، لكن فجأة توقف السائق بمحاذاة حافلة أخرى يعرف صاحبها قائلاً له: "أريدك أن توصل هذين الراكبين معك إلى بيروت، فأنا مسيرتي تنتهي هنا".
انتقل إلى الحافلة الأخرى.. وسرعان ما اكتشف أن سائقها شاب لا زال في سن الطيش، لم تعطه الأيام شيئاً من حكمتها.. تجلس بقربه إحدى الشابات "المودرن" كما يقال.. ومتى التقى "الطيش" مع "المودرن" بدأت تظهر المهارات!.. تارة يطلق بوق الحافلة على مداه دون سبب سوى لفت النظر إليه، وأخرى يرفع فيها صوت المذياع والأغاني الصاخبة إلى حد الجنون.. ثم لا يلبث أن " يشفِّط" أو يطلق من جهاز موجود معه صوتاً كالإنفجار.. والركاب يحدّثون أنفسهم "سترك يا رب"..
بدا الطريق طويلاً.. لكثرة الإنزعاج.. وما "زاد الطين بلّة" هو ذاك الطفل الصغير الذي صدف ركوبه في المقعد خلف ذاك الرجل، ولم يكفّ لحظة عن البكاء والصراخ.. حتى بدا الطريق كأنه طريق الجحيم.. فوجد الرجل نفسه يحدِّث صاحبه الذي يجلس قربه ولم يعرفه إلا للحظات "أنا لا أتوب عن ركوب الحافلات؟ لن أترك سيارتي بعد اليوم في مكان، وسآتي بها مهما كلّفني الأمر!" ابتسم الرجل الذي يجلس بقربه قائلاً "وأنا أيضاً فقد تركت سيارتي مع أبي.."
وانفتح الحديث.. وكان لهذا التعارف أن حوّل ذاك الجو الصاخب إلى جوٍ لطيف رغم الضجيج الهائل الذي يدور حولهما، إذ انسجما في حديث لطيف.. فالرجل كان صحافياً والآخر طبيباً تخرّج لتوّه وهو يعمل الآن كمتدرّب في إحدى المستشفيات..
وغاص معه في هم المستشفيات، وجده الذي كان في مأتمه بسبب خطأ من طبيب في المستشفى.. فقد أجري له تمييل في القلب وأُدخل بعده مباشرة إلى غرفة العمليات التي أُخرج منها ميتاً..
وانتقل الحديث إلى هموم الناس ومشاكل الحياة، وأخذت الأزمات التي يختلقها السائق الطائش من خلال قيادته المتهوّرة تتحول إلى فرص للتندّر على هذه الدنيا وما تجرّه على الناس من مشاكل.. وفي كل هذا الحديث كان التقارب يبدو واضحاً، والتفاهم يكاد يصبح السمة الرئيسية للحديث الخافت الذي كان يسرق حروفه من بين الزعقات المزعجة للمغنين الذين تنطلق أصواتهم مجلجلة من ذلك المذياع الذي لا يتعب.
توقفت الحافلة لينزل منها الرجل وهو يحدّث نفسه "يمكن لصحبة لطيفة أن تنسي جواً مشحوناً خانقاً"، ومرّ في فكره ما جعله يتردد في الصمود عند قسمه بأن لا يركب الحافلة بعد اليوم.
ماجدة ريا