Monday, October 16, 2006

محمد والعصافير الصغيرة

تصحو أم محمد كل صباح على زقزقة تشعر معها أنها داخل مزرعة للعصافير لكثرتها، تذكر تماماً اليوم الأول الذي استوطنت فيه تلك المجموعة الكبيرة من العصافير الصغيرة الحجم في الشجرة الضخمة التي تنتصب بالقرب من منزلها. في ذلك الصباح الباكر، عندما هبّت من فراشها إثر سماعها تلك الزقزقة التي، وإن بدت كسمفونية جميلة، تعلو وتحتدّ من وقت لآخر، خرجت إلى الشرفة تتلفّت إلى مصدر الصوت، ورأت ذلك المنظر... العصافير الصغيرة تتطاير في كل اتجاه، تدور، تطير، تعود... كانت تحاول أن تستجمع ذلك المشهد في صورة تحفظها لتنشط بها ذاكرتها من وقت لآخر.
رأت محمد ابن التسع سنوات وقد صحا ، وهرع ليقف إلى جانبها، يراقب معها ذلك المشهد، ويسمعها وهي تتمتم "سبحان الله الخلاّق العظيم!"
" سبحان الله يا أمي ما أجملها... أصواتها قوية جداً؟ لعلّها تسبّح الله مثلنا؟!"
" كل شيء يسبّح الله يا بني!"
وبعد ذلك، دأبت كل صباح على الاستمتاع بهذا المشهد إلى أن كان ذات يوم، وعت على صمت رهيب، شعرت أنها تفتقد شيئاً ما، أصغت بأذنيها علّها تسمع ما تسمع كل صباح... إنه الهدوء التام! لم تدرِ ما الذي أخافها في ذلك الهدوء، خرجت إلى الشرفة، ركّزت في الشجرة وانتظرت أن ترى أي عصفور يطير هنا أو يحط هناك!.. دون جدوى..
وتساءلت في سرها، أين ذهبت كل تلك العصافير؟ ولمَ أشعر بكل هذا الإنقباض لفقدانها؟
حتى محمد الذي بدا حائراً وهو يقف إلى جانبها، سألها وقد ترقرقت عيناه بلمعة الدموع "أين ذهبت العصافير يا أمي؟"
" لا أعرف يا بني! لكن ربما تعود"
مرّ ذلك النهار متثاقلاً، ولم تستطع أم محمد أن تتخلص من شعورها بالانقباض الذي سيطر عليها منذ الصباح، أما محمد فقد خرج ليلهو مع أقرانه أمام المنزل، وكان الوقت عصراً.
وفجأة، علا ضجيج في الحي، فاقترب محمد ورفيقاه من مصدر الصوت، حيث توقّفت آلية تابعة لقوى الأمن جاء عناصرها لهدم بعض مخالفات البناء، وقف محمد مذهولاً وهو يرى أن الشجار يتطور بين جيرانه، ورجال قوى الأمن، ولم ينتبه للهرب، بل كان ينظر إلى ما يجري حوله بغرابة ودهشة، وسرعان ما بدأ الرصاص يتطاير في الهواء ويختار بعض منه أن يرسو في جسده البريء، واحدة في الأذن وأخرى في الظهر...
نقل إلى مستشفى قريب على وجه السرعة، لكن عمره لم يمهله سوى دقائق قليلة، استذكر فيها عصافيره الجميلة، وشعر بروحه تتحوّل إلى عصفور صغير تلحق بها... لكنه عصفور حر طليق في جنّات واسعة.
وأدركت أم محمد عندها أن كل ذلك الإنقباض الذي شعرت به ما هو سوى مقدّمة بسيطة لما هي مقدمة عليه، وأن ذلك الفراغ والافتقاد لتلك العصافير هو افتقاد يسير أمام افتقادها لمحمد، فلا الألم يكفيها، ولا الدموع ولا أي شيء يمكن أن يطفىء تلك الجمرة التي سقطت في القلب، سوى ذكر الله وصبر منه يتحنن بهم عليها، لكن هذه الجمرة باقية في الأعماق كلما خطر في بالها طيف محمد.
وأدركت أن تلك العصافير لن تعود ، كما محمد.
ماجدة ريا

من يحمي الطفولة

الضحية الأولى للحروب: من يحمي الطفولة؟

تَذكُر الطفولة، فتَذكُر معها الرقّة والمحبة والبراءة وغيرها من المشاعر الإنسانية النبيلة التي تغذّي روح الإنسان. الطفل، هذا المخلوق الضعيف، يحتاجنا في كل شيء، لذا ما أن يولد حتى تتلقّفه رعاية أبويه أولاً، ومن ثم مجتمعه ووطنه. نعم إنه يحتاج إلى الرعاية فهو لا يستطيع أن يتدبّر أموره، فأي نوع من الرعاية هذه التي يحتاجها الأطفال؟ وهل نال الأطفال حقوقهم؟
تبرز هنا اتفاقية حقوق الطفل الدولية التي تعتبر من الأمور المهمة في مجال إنجازات حقوق الإنسان والتي وضعت في 20 نوفمبر/ت2 1989 ودخلت حيّز التنفيذ عام 1990 بمصادقة الكثير من دول العالم، ومن بينهم لبنان الذي وقع على هذه الإتفاقية عام 1991.
تضم هذه الإتفاقية 41 مادة ـ إضافة إلى مواد أخرى تتحدّث عن كيفية تطبيق هذه الإتفاقية ـ وقد سعت إلى حفظ حقوق الطفل، بدءاً من حقه في الحياة وضرورة المحافظة على حياته، وضمان كافة حقوقه التي يحتاجها للإستمرار في حياة كريمة، فتوجب تأمين الرعاية بشتى أنواعها الجسدية، الروحية والفكرية والإجتماعية والقانونية... وحمايته من أي تعسّف يمكن أن يقع عليه، كما أعطته الحق في التعبير عن نفسه، واحترامه ومنع تعرّضه للأذى.
ومن أجل متابعة تنفيذ هذه الإتفاقية، ألزمت الحكومات التي صادقت عليها بتقديم تقارير عن تنفيذها لها مرة كل خمس سنوات، وتنظر في هذه التقارير لجنة حقوق الطفل، الأمر الذي يؤدي إلى تحسين أوضاع الأطفال المنتمين إلى هذه الدول مع تنفيذ بنود الإتفاقية.
وعملاً بمتابعة تنفيذ هذه الإتفاقية شُكِّل في لبنان المجلس الأعلى للطفولة عام 1994 من مُمثّلين عن القطاعين الحكومي والأهلي للسهر على آلية التطبيق.
وقد أعلن لبنان في التقرير المقدّم للجنة حقوق الطفل أنه حقق الأهداف الموضوعة في القمم العالمية للعام 2000 ، لكن لا تزال هناك ثغرات في بعض الميادين ولا سيما غير القطاعية منها، ولكن بشكل عام حقّق تقدّم فعلي في ميادين أساسية مقارنة بالدول ذات الأوضاع المشابهة، واعتبر التعاون بين القطاعين الحكومي والأهلي من العلامات المميّزة.
ويمكن القول أنه تمّ تسجيل تقدّم ملحوظ بإعطاء أولوية للإهتمام بقضايا الطفولة في القطاعين العام والأهلي وتوفير البيانات الإحصائية من أجل وضع خطة استراتيجية وطنية شاملة للطفولة.
وهنا لا بد من التوقّف طويلاً أمام الحروب التي شنّتها "إسرائيل" على لبنان خاصة القوية منها كالذي حدث عام 1975، 1982،1993، 1996، والحرب الأخيرة في شهر تموز/ يوليو الماضي والتي تعتبر من أعنف وأشرس الحروب التي خيضت ضد لبنان من قبل العدو الإسرائيلي.
هذا العدو لا يحترم عهوداً ولا مواثيق، ولا يكترث لحق الطفولة في الحياة، وعن أي حقوق يمكن الحديث بعد أن ينتزع حق الحياة من الطفل؟! وماذا تنفع اتفاقية الطفولة عندها؟!
هذا العدو تعمّد قتل الأطفال وأمهاتهم دون رحمة، ودون أن يستوقفه مثل هذا الإنتهاك الصارخ لحقوق الطفولة، ولحقوق الإنسان، والشواهد على ذلك كثيرة ومثبتة، حتى في مجزرة قانا عام 1996 التي ذهب ضحيتها العشرات جلّهم من الأطفال والنساء، كان العدو يعلم بوجود هؤلاء في المكان الذي تعرض للقصف، وفي حربه الأخيرة كان استهداف المدنيين ـ وخاصة الأطفال ـ ثابتة واضحة في سياسته الإجرامية، فأين هو حق الطفل؟ ومن الذي يحمي الطفولة من مثل هذه الإنتهاكات الفاضحة؟!
وأنتقل هنا إلى نقطة لا تقل أهمية عن قتل الأطفال أثناء الحرب، وهي مسألة الألغام والقنابل العنقودية ( المحرمة دولياً أيضاً) التي نشرها العدو في أرض جنوب لبنان، والتي كانت ـ قبل الحرب الأخيرة وازدادت بشكل خطير بعدها ـ تحصد أرواح الكثيرين من الأبرياء، جلّهم من الأطفال، ومن لا يستشهد منهم بفعل هذه الألغام والقنابل فإنه يتعرض للإصابة بالإعاقة.
وإذا كان التقرير الذي قُدّم للجنة حقوق الطفل قد أشار قبل حرب تموز/ يوليو إلى أن لبنان لم يجتز بالكامل تأثيرات الحرب السلبية على مستوى المعيشة، وعلى توازن الموازنة العامة وأولويات إعادة الإعمار وهذا كله من شأنه أن يترك بالغ الأثر على أوضاع الأطفال بشكل كبير من حيث مستوى الموارد المتاحة، بأولويات تخصيصها وتناسبها مع حجم الإحتياجات، فكيف هو الوضع بعد هذا العدوان السافر والذي تركز من أيامه الأولى وحتى النهاية على استهداف المدنيين والأطفال وبيوتهم ؟ ماذا نقول عن طفل يبحث في ركام منزله عن صورة له، أو عن لعبة، أو عن كتاب؟ أو ذكرى حميمة؟!!
إذا كانت الأمم المتحدة ـ المفوضية السامية لحقوق الإنسان وصندوق الأمم المتحدة للطفولة ( اليونيسيف) ومنظمة الصحة العالمية ـ تسعى لوضع دراسة تطلب فيها من الحكومات وضع استراتيجيات ترمي إلى الوقاية من جميع اشكال العنف ضد الأطفال، ومكافحتها بصورة فعّالة، وإبراز الخطوات الواجب اتخاذها على المستوى الدولي من أجل توفير الوقاية والحماية والتدخّل والتأهيل وإعادة الإدماج، فهل سيكون هناك ما يحمي الطفولة من العنف الذي يقع عليها جرّاء الحروب؟ وهل تستطيع هذه الدول أن تفرض في المستقبل على دول لا تحترم المعايير الإنسانية كـ "إسرائيل" ما يحمي الطفولة ـ اللبنانية والفلسطينية أيضاً ـ من الأذى؟
وهل تستطيع هذه الدول أن تمنع "إسرائيل" من استعمال الألغام الأرضية والقنابل العنقودية والتي هي محرّمة دولياً أصلاً والتي غالباً ما يكون ضحيّتها الأطفال؟
أم أن حقوق الطفل ستبقى مهدورة، بالرغم من وجود كل تلك الإتفاقيات الدولية، وبالرغم من بلوغ العالم هذه الدرجة من التحضر، فلا يحول ذلك دون أن نرى المجازر والإنتهاكات ترتكب بحق الأطفال في أكثر من مكان، وليس في لبنان وحسب؟
من يحمي الطفولة؟

ماجدة ريا ـ لبنان
هذا المقال نشر في مجلة "المسار" التي تصدر عن جامعة السلطان قابوس ـ عمان
العدد (88) 20 سبتمبر 2006