Tuesday, April 17, 2007

ماذا لو ترك الأهل أبناءهم؟

ربما نشعر أن المجتمع بدأ يتحرّك نحو الأفضل، وأن كثيراً من الناس يسعون إلى تحسين أوضاعهم، وأوضاع عائلاتهم.
وربما نعتقد أن المجتمع آخذ بتحسين نظرته نحو الأنثى بشكل مطّرد بسبب تحرّكها الفاعل أو بسبب الثقافة المنتشرة أو ما إلى ذلك.
ربما الوعي الديني الذي يعطي الأنثى حقوقها كاملة في الإسلام ويعاملها على أنها متساوية في الإنسانية مع الذكر له دوره الأكثر فعالية في تحسّن الكثير من الأمور التي كانت تُمارس باسم الدين وهي ليست سوى أعراف قبلية، ومخلّفات جاهلية رزحت تحتها المرأة ردحاً طويلاً من الزمن، ولا زالت بعض آثارها تنتشر هنا وهناك، لأن المجتمعات العربية لا زالت في قسم كبير منها تعاني الجهل. ويصبح الجهل أكثر قتامة عندما يدّعي البعض العلم وفي داخله يبقى جاهلاً لأبسط حقائق الأمور.
جاء الإسلام ليغيّر عادة وأد البنات، بل ليجعل من الأنثى رحمة، وبشارة لأهلها، بعد أن كان يسودّ وجه من يُبشّر بها، وربما لا زال هناك أشخاص حتى يومنا هذا تسودّ وجوههم عندما يبشّرون بالأنثى، ويعتبرونها هماً وغماً، وحملاً قد يجلب العار! ولكن قد لا يجرأون على وأدها، بل يعاملونها بكثير من التشدّد والصرامة، التي قد تجعلها تعيش حالة الوأد تلك كل يوم، وأحياناً يتجاوز الأمر كل الحدود.
ونفاجأ ونحن في القرن الواحد والعشرين بعائلة تخاف على ابنتها إلى الحد الذي يضطّر معه رب الأسرة إلى تركها عند أهل الأب أثناء انتقالهم إلى العيش في بلد غربي "خوفاً عليها من التلوّث بالقيم الغربية والحياة الغربية"، بينما يذهب باقي أفراد العائلة إلى هناك ـ الأب، الأم، الأخوة الذكور ـ وتبقى الفتاة المسكينة منذ صغرها في عهدة جدّيها وعمّها العازب والذي لا يملك أي خبرة تربوية ليتسلّط عليها كيفما يشاء!.
فهل حموها بذلك؟ وأي ضغط نفسي تعيشه مثل هذه الفتاة التي تحرم من العيش في أحضان عائلتها لمثل هذا السبب الذي قد يصبح سخيفاً جداً أمام ما يتهدد حياتها.
أليس من الأفضل أن يصطحبوها معهم ويحافظوا عليها كما يحافظون على أنفسهم؟
كثيرة هي العائلات التي استطاعت أن تربّي أبناءها في الغرب تربية صالحة، وتجعلهم يحافظوا على دينهم وأخلاقهم، وأن يكونوا قدوة يحتذى بها هناك!
ولكن ... ما أسهل على البعض التنصّل من مسؤولياته، ليقول لا أستطيع، وأخاف، بينما هو بذلك يزيد المشكلة تعقيداً، ويزيد من مخاطر السوء الناجمة عن تصرفه، وعلى اعتبار أنه لا يحق للأنثى ما يحق للذكر، بينما هما متساويان في حق البنوة والتربية والعيش السليم، من أجل بناء نفسية سليمة، ومجتمع سليم.
.ماجدة ريا

Sunday, April 15, 2007

رائحة الماضي

كنتُ أنتظر عطلة الصيف بفارغ الصبر، وها هو قد أتى.
وما إن أنهينا ـ أنا وأخوتي ـ الامتحانات النهائية للسنة الدراسية في أواخر شهر حزيران، حتى قام والدي بإرسالنا إلى "مروحين" حيث بيت جدي الذي أحبه كثيراً، وأنتظر زيارته من حين لآخر بفارغ الصبر.
مروحين تلك البلدة الحدودية الصامدة والتي تلاصق أراضيها الأراضي الفلسطينية المحتلة، لم نكن نجرؤ على زيارتها قبل العام ألفين، لكن منذ 24 أيار 2000 وأنا أقضي عطلي الصيفية في ربوعها.
هي خمسة، فصول الصيف التي قضيتها هناك، وكانت أيامها من أجمل ما عشت، رغم طفولتي المدللة التي قضيت معظمها في رحلات روتينية في قلب المدينة. أما في القرية، فمجرد وجودي في ذلك المنزل الريفي الجميل هو رحلة.
لم تستطع أمي رحمها الله أن تشاركنا فرحتنا هذه، لأنها فارقت الحياة بسبب مرضها قبل أن تتاح لها فرصة شم تراب الأرض التي وُلدت عليها ونزحت عنها قسراً في طفولتها... ربما روحها مرتاحة الآن في عليائها وهي ترانا نرتع في حضن تلك الهضاب الجميلة.
ولم يكن أبي قادر على البقاء معنا بسبب ارتباطه بأعمال كثيرة، كان يزورنا من حين لآخر، بينما يتولى جدي وجدتي رعايتنا أثناء غيابه، وأنا بأعوامي الثلاثة عشر كنت أساعد جدتي ما استطعت، وأقضي بقية وقتي في المطالعة، أو التنزّه في حضن الطبيعة، وأحياناً كثيرة ترافقني سلوى، ابنة جيراننا التي اتخذتها رفيقة لي.

فاجأنا تموز هذا العام، وإسرائيل بإعلانها الحرب العشوائية على لبنان، وصواريخها التي أخذت تنهمر على قريتنا كما على كل مكان، كانت تحمل معها حقداً دفيناً، وكأنها كانت تنتقم من كل شيء، من البشر والحجر، من الأرض والهواء، انتقام العاجز الذي لا يستطيع أن ينال من خصمه، فينتقم من الأبرياء الذين يصادفهم أو حتى من الجماد.
في اليوم الرابع للعدوان، المواجهة تزداد حدّة بين الجيش الصهيوني من جهة والمقاومين الأبطال من جهة أخرى، وأعلنت إسرائيل أنها ستدمر كل شيء، طالبة من سكان القرى الحدودية المغادرة، وأعطت وقتاً قصيراً لذلك.
بدأ الأهالي بالتجمع، خاصة من معهم أطفال، ومنهم جدي الذي جمعنا وأركبنا في إحدى الحافلات وركب معنا..
كان الوقت يداهمنا، فقررنا اللجوء إلى مركز قوّات الطوارىء الدولية، طلباً للحماية، فطلبوا منا أن ننتظر، والوقت ينفذ بسرعة أكبر، وبعد بعض الوقت أعلمونا أننا لن نستطيع البقاء في المركز، ولا حتى الأطفال، وقد كان معظمنا من الأطفال ، بكل بساطة قالوا لنا "لا نستطيع تحمل مسؤولية تواجدكم هنا!"، فانطلقت الحافلات تعب الريح ـ والغضب يملأ كيان السائقين والأهالي ـ تريد أن تنجو بحمولتها من الأطفال والنساء والشيوخ.
كنا في منتصف الطريق تقريباً، بالقرب من بلدة "شمع" عندما صمّ أذني دوي قوي كالرعد، وطرت من الضغط إلى مسافة بعيدة أنا وصديقتي، لم أعد أعي ماذا حدث، لكنني عدت إلى وعيي في المستشفى بعد أن نقلني الدفاع المدني إلى هناك وأنا في حالة يرثى لها.
حاولت أن أتذكر من كان معي، أين جدي وأخوتي والآخرون؟
كان المستشفى مليئاً بالضجيج، جرحى كثر، وأشخاص يدخلون وغيرهم يخرجون، وعرفت أن الطائرات الإسرائيلية لم تمهلنا لنغادر، بل وكأنها أمرت الناس بالخروج لتقصفها وبكل دم بارد على الطريق!
فقد أمطرت الطائرات صواريخ، وألهبت الحافلات بنيرانها، لتترك أجساد الأطفال والنساء متفحمة!
هل كان يجب أن أنجو؟ والمشهد يحفر في قلبي هوة لن تُردم، والألم يتآكلني كوحش جائع، ليس ألم الجروح والرضوض وإنما ألم الروح الذي يسري في أوصالي فيجعلني في تلك اللحظات أتمنى لو أنني كنت من ركب الشهداء، مع أخوتي وجدي... وكل من أحب!
كانت أنفاسي تتقطع، وكأن جسدي يبحث عن ذرات الأوكسيجين في الهواء لتسعفني على البقاء، وعندما دخل والدي إلى الغرفة، والتقت عيناه بعيني، لم تكن الدموع تكفيني لأعبر عمّا أنا فيه، وتحشرج صوتي إلى حد الاختناق!
حاول أبي أن يتماسك أمامي كي لا يزيد من تدهور حالتي الصحية والنفسية، لكن ما أخفته الكلمات كشف عنه الوجه المحتقن ألماً وغيظاً من عدو أقل ما يقال فيه أنه عدو للإنسانية! ها هو قد فقد كل شيء! أباه، أمه، أولاده... لم يبقَ أحد غيري! وبت أنا رائحة الماضي، وأمل المستقبل.
ماجدة ريا