Thursday, February 02, 2006

مقابلة صحفية


امتشقت قلمي، حملت بيض أوراقي، خطوت نحو تلك البوّابة الزرقاء الكبيرة حيث تلج منها إلى ممر عريض يفصل حديقة المنزل إلى قسمين...
رأسي مثقل بكثير من الأسئلة الحيرى التي تبحث لها عن جواب، فقد حضرت إلى هنا لأجري مقابلة مع أم ياسر، الشهيد الذي سقط في العملية النوعية الأخيرة...
لكم كنت أشعر بنهم لسماع أي كلمة ستقولها، ومع ذلك فقد كانت خطواتي بطيئة... وتساءلت في نفسي "هل هي الهيبة من أم الشهيد؟! أم هي رائحة التراب التي تفوح من الأرض فتخترق عظامي! لكم أحب هذه الرائحة أكثر من أي عطر آخر ـ هل لأن الإنسان من تراب وإلى التراب يعود؟ـ لست أدري...." أخذت نفساً عميقاً حتى امتلأت رئتاي، وأنا ما زلت أتابع خطواتي باتجاه الباب الرئيسي للمنزل.
السماء ملبّدة بالغيوم الداكنة، لم تفرغ كل حمولتها من المطر، وقد لفتتني تلك القطرات التي لا زالت تزيّن الأغصان العارية كأنها دموع الندى... وسنديانة عتيقة وقفت بكل شموخ إلى جانب الجدار زاد المطر اخضرارها توهّجاً حتى بدت كجوهرة خضراء...
تعانقت ألوان الشتاء في هذه الحديقة، وأكسبها كانون لون النار، إلاّ شجيرة منها أبت إلا أن تبقى في ألق.. تفتّحت ورودها نديّة بلونها الزهري يتحدّى برد كانون وقسوته.
استغرق مني هذا الممر القصير كل هذه الدقائق، وصلت أخيراُ إلى الباب، نقرت نقرات خفيفة ، انفتح ... وظهرت منه صبيّة صغيرة قادتني إلى حيث تجلس والدتها..
شعرت بالرهبة من جو تلك الغرفة، أتراها ليست كباقي غرف الجلوس؟ "مقاعد أنيقة تنم عن ذوق رفيع، وديكور رائع على الرغم من بساطته يجعل النفس في حالة سكون غريب، لا .. ليس هذا هو السبب بالتأكيد!... ربما تلك المرأة التي وقفت تستقبلني؟"... امرأة في العقد الخامس من العمر، بدأت بعض التجاعيد الخفيفة تتسرّب إلى خطوط وجهها، دون أن يمنعه ذلك من أنّه يشع بنور غريب تجعل الناظر إليها ينجذب لتأمّل تلك القسمات...
بعد السلام والتحية، جلست قبالتها، وشرعت في تدوين كل كلمة تلفّظت بها، وحرصت إلى أن أشير إلى اللذة التي كانت تتحدّث بها عن صفات ومآثر الشخص الذي طالما أحبّته ولا زال يسكن الفؤاد...
وفي الختام كان سؤال: "ما هي أعز أمنية لديك الآن؟"
دمعت عيناها وبصوت أجش جعل القلم يرتعش في يدي قالت "أتمنى أن أستطيع الذهاب إلى المكان الذي استشهد فيه، وأزرع وردة هناك!"
لم أستطع أن أمسك دمعتين سالتا على وجنتي وأنا أردد "أتمنى من الله أن يحقق لك امنيتك هذه!".
لقد استشهد داخل المنطقة المحتلّة في الجنوب.. وبدا الأمر كأنه شبه مستحيل!.
***
بزغ فجر الخامس والعشرين من أيار (مايو) لعام 2000، محمّلاً بعبق أريج الإنتصار والتحرير، ودحر العدو عن معظم أراضي الجنوب...
الناس يتدافعون باتجاه الحلم، كل يريد أن يبارك أنفاسه بتنشق هذا الهواء الذي حرموا منه طويلاً..
لم أنسَ أمنية تلك المرأة، وقرّرت أن أشهد تحقيقها، وقد اتخذ المعنيون الترتيبات اللازمة لأخذها إلى ذاك المكان الذي يصعب الوصول إليه..
وجدتني أقف أمام تلك الدار مرّة أخرى وكان الخبر قد سبقني إليها، فها هي المرأة الخمسينية بكل وقارها تقف في الخارج، تنتظر كأننا على موعد، موعد تحقيق الحلم.. والأمنية التي حامت في قلبها لسنوات، أرض الحديقة تموج بالإخضرار، وقد انبعث عطر ورودها التي تلوّنت بلون العيد في كل مكان يعطّر الأجواء، واستدفأت بأشعة الشمس فانعكست إشعاعاتها أنوار فرح تبلسم الجراحات، وتُشعر الناظر إليها بنبض الحياة.
لا زالت السنديانة العتيقة تقف بشموخ قرب الجدار ينبعث من داخلها زقزقات وتغاريد، تردّد حكايات النصر مع فرح الربيع!
تلاقت عيوننا، ابتسمت، فبادلتني الإبتسام، وما لبثت أن احتضنتني بحرارة ثم نظرت في وجهي وهي تقول بصوت أجش " جئت تشهدين تحقيق الأمنية؟!"
هززت رأسي علامة الإيجاب، وانطلقنا معاً في السيارة التي كانت تنتظرنا عند المدخل.
السيارات تسير في قوافل باتجاه الجنوب...
القرى الجنوبية تعيش عرس التحرير...
الناس يعقدون حلقات الدبكة الشعبية في الطرقات والساحات...
ولسان حال النساء أهازيج وزغاريد...
من وقت لآخر كنت أسرق التفاتة إلى وجه المرأة التي تجلس بقربي، كانت هي الأخرى تحدّق من نافذة السيارة في كل ما يجري فيشعّ من عينيها نور غريب يضيء قلبها.
بدأت السيارة تتنحى عن الطريق الرئيسي لتدخل في طرقات فرعية، إلى أن وصلنا المكان المقصود.
توقّفت السيارة... ترجّلت " أم ياسر"، وبشكل تلقائي جثت على ركبتيها، مدّت كلتا يديها إلى التراب، حضنت من حبّاته ما استطاعت، رفعتها إلى وجهها، شمّتها بملء رئتيها.. صاحت: "لا زالت رائحتك ها هنا يا ولدي، إنّي أشمّها... أحسّها... أرى روحك وأرواح الشهداء يفتحن بوابات التحرير... يتقدّمن الناس... يهلّلن يكبّرن... أشعر أن عرسكم اليوم أكبر من عرسنا، وفرحتكم أكبر من فرحتنا... أنتم الأحياء... أنتم الأعلون..."
كانت تتلمّس كل ذرّة من ذرّات التراب الموجودة في ذلك المكان، وتحتضن صورته في عينيها...
قلبي ينبض بعنف، وحواسي لا تكفيني لاستيعاب ما يحدث... بقينا نراقب حركتها العفوية، وكلماتها التي انطلقت دونما تحضير، لتفيض بمشاعر جيّاشة.
حملت شتلة الورد التي أحضرتها معها، وغرستها في تلك البقعة، سمعت الأرض تتجاوب مع هذه المرأة
تنهّدت الأرض
ارتعش التراب
نادى الصدى
أهلاً بالوافدين
ولّى العذاب
انبلج الفجر
وابتسم الندى
في حضن الياسمين
أيا زائراً... انظر في المدى
حدّق.. ماذا ترى؟
دقّق في رجع الصدى
أنا الأرض... أنا الأرض
أرأيت أنهار العسل واللبن؟
والظلال الوارفات والحور العين؟
أوتشعر أن في سمائي جنة عدن
يقطنها شبّان في النعيم خالدين؟
فهنا جرح مقاوم، وهنا قضى شهيد، وآخرين... آخرين
طهّروني بدمائهم من رجس الغاصبين.
ماجدة ريا

Sunday, January 29, 2006

وا... إسلاماه!

وا... إسلاماه!
تفجّر الكلمُ في أحشائي، تشظّى القلب حتى تشققت جدرانه، ونبتت الشظايا فيها كنصال حادة تسيل من حوافها الدماء...
أي زمان هو زماننا؟ وفي أي عصر نعيش؟
تقدّم، حضارة، ديمقراطية، حرّية، ثقافة.... ودول تذكر على أنها مضرب المثل! أعني الدول الغربية.
تقدّمهم وحضارتهم وذكاؤهم هو الذي مكّنهم من إقامة دولة إسرائيل على حساب شعب بكامله، بل أمة بكاملها!
اليوم، وهم الممسكون بزمام القرارات العالمية، يريدون صياغة عالم على مزاجهم، وقوانين على مقاسهم، ودول راكعة عند أعتابهم..
اليوم تنشر بعض الصحف الغربية صوراً مسيئة ومهينة جداً للإسلام، ولا يعاقب الفاعلون فهذا نوع من الحرّية الإعلامية!
قبلها كانت فضيحة تدنيس القرآن الكريم وبالكاد سمع من المسؤولين اعتذار خجول بعد العديد من المظاهرات المستنكرة.
واليوم أيضاً هناك الحديث عن السجون الأميركية الأوروبية السريّة لكل من يشتبه به أنه له علاقة بانتماء ما!
وقبلها كانت الفضيحة الكبرى للممارسات اللاإنسانية بحق السجناء في سجن أبو غريب وغوانتانامو وغيرها من سجونهم المعتبرة!
اليوم توقف بث قناتين في هولندا بسبب انتمائهما للإسلام وتوضع قناتان إسلاميتان غيرهما أيضاً تحت المراقبة، والوقف هو بحجة أن هاتين القناتين تحضّان على الكراهية والعنف؟!!!!
الإنتماء إلى الإسلام دين الأخلاق والتسامح والحب بات إرهاباً؟! قول الحق دون مراوغة إرهاب؟! الحجاب إرهاب؟! المقاومة بوجه المعتدي إرهاب؟!!!!!
أعمال التدنيس والسفاهة واللاأخلاقية هي الحضارة المرجوّة والحرّية المقبولة عند هؤلاء، الممارسات اللاإنسانية بحق الأفراد والشعوب المستضعفة هي قمة الديمقراطية، المجازر والتسلّط والقمع في العراق وفلسطين وغيرها من دول العالم هي الحضارة ..
فعلاً يمكن القول أننا بتنا نعيش في زمن انقلبت فيه المعايير العالمية للإنسانية، وانقلبت كل المقاييس، والغريب في كل ذلك هو الصمت الدولي عن كل ما يجري من انتهاكات صارخة لحقوق البشر بعنوان تحقيق حقوقهم، والأغرب من ذلك هو التصفيق للظالم على ظلمه وافتراءاته والتصديق عليها على أنها واقع؟
فهل يجب أن يصدق الجميع أن النظام العالمي الجديد قد سطرته أميركا وحلفاؤها وفق ما يروق لهم من معايير وما على الآخرين إلا الخضوع؟
وأين المسلمون من كل ما يجري؟؟
وا إسلاماه!.
لكنني أتساءل ببساطة، لو كانوا أقوياء بثقافتهم التي يودّون نشرها، لمَ يخافون الآخر؟! لمَ يريدون خنق كل صوت معارض؟ لمَ لا يتركون مجالاً لحوار الثقافة ولينتصر المنطق الأقوى؟
كل الإجراءات القمعية للتضيق على الآخرين إنما هي إجراءات ضعف بمظهر قوة، وخوف من حقائق قوية.
ماجدة ريا