Wednesday, January 10, 2007

سيرك القوافي

انبرى فريد، أحد أمراء الشعر إلى ركنه الخاص به من تلك الحجرة الواسعة في المقهى القديم، والتي كان يتوافد إليها الناس لتناول فنجان من القهوة أو كوب من الشاي، والقصد المضمر إما استراحة لبعض الوقت، وإما ملاقاة بعض الأصدقاء، ولكن جزء كبير منهم كان يقصد المكان للتعرف إلى أحوال الناس وما يجري معهم، هناك في تلك الحجرة حيث كانت تلقى المشاكل والهموم وأيضاً يعلن فيها عن المسرات.
أحد لم يجرؤ على الإقتراب من فريد، فهم يعرفون أنه عندما يجلس هناك فهذا يعني أن هناك جمالاً شعرياً سوف يولد، وأن رؤية جديدة قد تتكشف لهم، فقد كانت قصائده تأتي متناغمة، خفيفة الظل، جميلة القول، لكنها كانت دائماً توصيفاً لواقع، منه الجميل ومنه المر، وإن كانت مرارة معاناة الناس المتزايدة لأهل تلك المنطقة باتت طاغية على ما عداها، لكن تجرّع المرارة من كأس الشعر كان لها طعم آخر!
من كان يجلس في الحجرة ويرى فريد قادماً وقد اتخذ مكانه ، كان لا يغادر حتى لو كان مضطراً، بل يلتصق بكرسيه إلى أن ينتهي فريد من تفريغ حمولته الذهنية، حيث يستدير واقفاً ليواجههم، وبيده ورقة تحسبها سيفاً مسلولاً، وإنما يوحي بذلك نبرة صوته الجهورية، التي ما كانت لتتأثر بخوف أو بردة فعل، وما يُرى على وجهه من تعابير لأحرف شعره والتي تحس أنّها تتقافز أمام عينيك كما لو أنك في حضرة السيرك، فكانت بخفتها وجمالها تجعلك تراها كما البهلوانات وهم يتقافزون على الحبال بكل خفة ورشاقة، تراهم في خطر، لكنهم يرون أنفسهم في أمان بخبرتهم، وخفّتهم وقدرتهم على الأداء.
عندما يكون فريد موجوداً لا أحد يخرج قبل الإستماع إليه.
في ذلك النهار، كان فريد يحدّق في الحائط أمامه ، حيث عرّشت عليه تلك النباتات المتسلّقة للجدران، فلم تترك فيه مكاناً يرى، وكانت أشعة الشمس القادمة من النافذة تلمع على الأوراق فتزيدها اخضراراً، وتجعل الثقوب التي بينها متوهجة بأشعتها الذهبية، لتبدو كأنها مرآة تعكس لفريد واقع هؤلاء الناس، فيضع يده على جبينه، ويخفض رأسه نحو ورقته، ولا يرفعه إلا عن قصيدة أسطورية، بدت كأنها من أجمل ما كتب، لكنه احتار إذا ما كان يمكنه حقاً أن يطلق عليها اسم قصيدة! لأنها رغم جمالها وتناغمها فقد كان لكل سطر فيها قافية خاصة به، والقصيدة يجب أن تكون من قافية واحدة.
دقق في قصيدته، هي شعر منظوم، بل من أجمل ما نظم في الشعر، لأنها تحوي ألواناً متعددة ولكنها متناسقة، وتعابير مختلفة ولكنها متآلفة، وقال في نفسه:
"ولمَ لا؟! سأسميها (سيرك القوافي)".
ابتسم في سرّه، والتفت نحو الناس، لأول مرة تمتلىء القاعة بهذا الشكل! وكأنه لم ينتبه لنفسه أنه جالس في زاويته منذ وقت طويل، وأن كل الذين دخلوا لم يشَأوا الخروج قبل الإستماع إليه، بدا في حيرة من أمره وهو يمرّر نظره على كل تلك الحشود وعلى الذين آثروا البقاء في تلك الحجرة ولو واقفين لأنه لم يتبقَّ لهم مقاعد!
رغم الحيرة التي انتابته، كان قوياً لا يهاب من شيء، بل كان يستمد ثقته من عزيمة لا تلين، وبينما هو يشحذ أنفاسه ليبدأ الإلقاء، كانت أصوات الجماهير تتعالى "هيا يا فريد، أسمعنا ماذا كتبت" وعلا التصفيق من قبل أن يبدأ.
هزّ رأسه لهم ورفع يده إلى أعلى ليحييهم وما إن نطق بأول حرف حتى ساد الصمت، وتطاولت الأعناق نحوه، والجميع في حالة انبهار ...
عندما انتهى من إلقاء قصيدته لم يفاجأ بحدة التصفيق وحرارته التي لم يسبق لها مثيل والذي كان يخترق كل الجدر والمسافات، فقد كان في كل كلمة من القصيدة دعوة، وفي كل بيت حركة، وفي كل مقطع أمل بفتح جديد، أما الأصوات التي ارتفعت تردّد "سلمت يا فريد، سلمت يا فريد" فقد كانت تبشّر برسم واقع جديد.
ماجدة ريا
10/1/2007