Saturday, January 17, 2009

أطفال غزة: الاستغاثة المفقودة

.. وتستمرّ الجريمة، والعدو الصهيوني الغاصب لم يشبع بعد من دماء الأطفال.
شلاّل الدم ما زال مفتوحاً في غزّة، والجرح النازف من الطفولة المقهورة لم يتوقّف، والعيون الصغيرة ما زالت تبحث عن ذرّة أمان، ولكن أنّى لها أن تجدها وقد استبدّ العدو واستشرس أمام المزيد من هوانه وضعفه وعجزه.
ها هو عدد الشهداء من الأطفال فقط يناهز الثلاثمئة وما زال العدّاد يشير إلى المزيد من الارتفاع في قتل الطفولة البريئة ظلماً وعدواناً.
ولعلّ الاستشهاد يهون عند حدود المعاناة الأخرى، لأن الشهداء ينتقلون إلى جنّات النعيم، وتبقى معاناة الجرحى، خاصة الأطفال منهم، أكبر معاناة.
هذه آثار قذائف الفسفور الأبيض تنتشر في كل مكان، تحرق كل بشر تصل إليه.. حروق بالغة من الدرجة الثانية والثالثة، وحروق يسقط اللحم معها، فأيّ فظاعة هذه؟! وأي تشوّهات وإعاقات ستترك لدى هؤلاء الأطفال الذين ينظرون إلى ما يجري عليهم بتسليم إلهي كبير؟! ولكن ماذا عن آلامهم الجسدية والنفسية؟
لقد شاهدنا ذلك الفتى الذي لفّ رأسه ووجهه وكل جسمه بالشاش بسبب تعرّضه للاحتراق، والفتى الآخر الذي بدت حروق وجهه واضحة للعيان، وغيرهما آخرون من الكبار والصغار ممن تعرّض لحروق بالغة.
ليس الفسفور الأبيض وحده، فإن "اسرائيل" استخدمت نوعا آخر من السلاح يؤدي إلى بتر الأطراف، ويصاب معه الأطفال بإعاقات كبيرة.. والطفلة جميلة هياش واحدة منهم.
كما استخدمت أسلحة تؤدي إلى تفجير العيون، بحيث تصبح العين غير قابلة للإصلاح أبداً، ولا حتى للتجميل، كما في حال الطفل لؤي صبح الذي نجا بأعجوبة بعد ان استشهدت عائلته، ما عدا والده الذي لم يكن في المنزل.
واستخدمت أسلحة تؤدي إلى نزف داخلي دون أن يتمكن الأطباء من معرفة سبب واضح له بسبب الأشعة غير المرئية التي تتعرّض لها الشرايين في الجسم، فتؤدّي إلى استشهاد المصاب بها.
لم يُعرف كم نوعا من الأسلحة المحرّمة والممنوعة دولياً استخدمتها "اسرائيل" غير عابئة لا برأي عام دولي ولا بمشاهد الأطفال والعزل المروّعة، بل ربما هي لم تترك سلاحاً محرماً أو سلاحاً فتاكاً إلاّ واستخدمه في عدوانها هذا، والضحايا معظمهم مدنيون ومن الأطفال والنساء.
لقد تجاوز عدد الجرحى 5000 جريح، ولم يتوقّف العدوان بعد، وما زالت "إسرائيل" مستمرّة في نشر الخراب والدمار والقتل والتشريد، وما زال أطفال غزّة يناشدون من لديه رحمة أن يرحمهم، وأن يستنقذهم العالم من مأساتهم، والصهاينة يصمّون آذانهم عن صراخ العالم، ولا يرون سوى ورطة لا يعرفون كيف يخرجون منها.. مع كل هذا الخزي والعار الذي يلازمهم.
مهما تحدّثنا عن تلك المعاناة الإنسانية فلن نفيها حقّها، ولن نستطيع أن نعبّر عن عمق تأثيرها في المشاعر الإنسانية عندما تكون هذه المشاعر موجهّة بالاتجاه الصحيح.. ربما نستطيع أن ننقل بعض الصور ونتحدّث عن بعضها، وكل ذلك لا يفي بالتعبير.
ماذا نقول ونحن ننظر إلى صورة فتى يحتضن أمه التي تفارق الحياة بين يديه، وهو عاجز عن فعل أي شيء؟
ماذا نقول عندما نرى طفلة هُدم المنزل عليها وعلى أخواتها وهن نيام، اُستشهدت أخواتها وكتب الله لها النجاة لتنظر بأسى لا يوصف إلى ما يجري حولها، وهي عالقة تحت الركام لم يظهر منها سوى رأسها وذراعيها، والمسعفون يحاولون رفع الركام عنها بأيديهم؟! وهي تنظر إليهم لا حول ولا قوة لها إلا بالله المستعان.
وماذا نقول عن تلك الطفلة التي رمى الصهاينة شقيقتيها بالرصاص وهي تنظر إليهما وسط تهديدها؟
وأي قلب يحتمل منظر الدماء وهي تسيل من الأطفال؟
فأي عالم هذا؟ وأي نوع من البشر هم هؤلاء المجرمون؟

في دراسة حول استخدام الأسلحة الملوثة بمواد اليورانيوم دفاعاً عن حقوق الإنسان، أظهرت أن نسبة الإصابات العقلية والنفسية عالية جداً، وهي لا تظهر إلا بعد زمن معين وغير بعيد.
ويقول أحد الاختصاصيين في الطب النفسي: إن أول ما يتأثر به الأطفال هو الشعور بعدم الأمان وعدم الثقة بما حولهم، وهذا بطبيعة الحال يؤثر في بناء شخصياتهم، فيتحول كل شيء من حولهم الى وحش مفترس. ويعزز هذا الأمر أن من يفعلون ذلك محسوبون على صنف البشر.
أما الباحث جون برنجل Jone Bringle فيؤكّد في خاتمة تقرير أعدّه حول أوضاع الأطفال في غزّة: "يبدو لي وللباحثين الاجتماعيين أن المجتمع الدولي أهمل الأطفال الفلسطينيين، وهذا نوع من النبذ، ويُنظر إليهم على أنهم لا يستحقون الحماية تحت مظلة معاهدة جنيف وقوانين حماية حقوق الإنسان المدني أثناء الاحتلال او الحروب.. ويجب أن نتذكر أنه حيثما تسقط قنابلنا وتصوب بنادقنا وتسقط صواريخنا فإن هناك أطفالاً يولدون، ويلعبون، ويذهبون إلى المدارس".
هذا شاهد من العديد من الشواهد التي تؤكّد أنّ ما يجري على الأطفال في غزة يعتبر جرماً في القضاء الطبي والنفسي يستوجب المساءلة القانونية.
هنالك حركة كبيرة حول العالم تسعى إلى محاكمة "اسرائيل" حول جرائمها الفظيعة محاكمة فعلية، فهل سيتمكّنون من ذلك؟
وهل ستتوقّف "إسرائيل" عن إجرامها بحق الشعوب، سيما الأطفال والأبرياء؟
هذه التحرّكات المتضامنة مع الحقوق الإنسانية هي جميلة ومطلوبة، لأنها ستزيد من الشواهد على همجية هذا العدو الذي لا يمتثل لا لحقوق إنسانية ولا لمساءلات قانونية، ومع ذلك فهي ستؤرّخ لجرائمه المروّعة بحق الطفولة، والمجتمع الإنساني الفلسطيني بشكل خاص الذي يتعرّض لكل ذلك، والمجتمع الإنساني الدولي بشكل عام، لأن ما فعلته "إسرائيل" في غزة أساء إلى مشاعر الملايين من البشر على مختلف أديانهم وانتماءاتهم.
وحتى اليوم لم نشهد أيّ معاقبة فعلية للكيان الصهيوني الغاصب، برغم أن تاريخه قائم على المجازر والإبادة الجماعية، وخرق كل الاتفاقيات الدولية والأعراف الإنسانية. فهذا الكيان الغاصب لا يرتدع إلا بلغة القوة، فهي اللغة التي يفهمها، ولذا ستبقى المواجهة والمقاومة لهذا العدو الشرس هي الخط التي نسير عليه، وهذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى التحرر من هذه القوة الصهيونية الغاشمة، وإلى تحرير الأرض والمقدّسات.
ماجدة ريا