Sunday, April 22, 2007

الحقل الناطق


منذ طفولتها المبكّرة، كانت الطبيعة تلامس أحاسيسها وتحرّك شفافية روحها لترتقي بها في عالم من الغموض والتساؤلات.. يرشح عنه هالات مضيئة تبهجها وتدخل في نفسها السرور.
كانت في التاسعة من عمرها عندما ذهبت مع قريبة لها التي اصطحبت معها ابنتها أيضاً إلى كرم العنب، كانت لا تزال الدوالي على الأرض فتبدو وكأن كل واحدة منها كفُّ يدٍ ساجدة لخالقها، والمسافات التي كانت تفصل بين تلك الدوالي من الأرض السمراء افترشها ذلك النوع من الورد البرّي، صغير الحجم، أبيض اللون، رائع المنظر على صغره، وبرِّيته..
قالت الفتاتان " لنتسابق في قطف مجموعة من هذه الورود"، وبدأ السباق حامياً، في الوقت الذي كانت قريبتها تملأ سلّتين كبيرتين صنعتا من القش بعناقيد العنب الذهبية اللون.
ناداهما صوتها الجهوري " تعاليا إلى جانبي، علي أن أبدأ في قطاف التين."
على حدود ذلك الكرم، انتصبت شجرتان باسقتان، يبدو عليهما الهرم، وقد امتلأتا بأكواز التين.. اعتلت قريبتها إحدى الشجرتين ومعها دلو تعلٍّقه في أحد الأغصان من أجل وضع التين في داخله، أما الفتاتان فكانتا تدوران حول جذع الشجرة في حركة تحمل من الامتنان أكثر مما تحمل من اللهو الفارغ من الهدف.
انتبهت الفتاة إلى تلك الشُجيرة التي تتوسّط الشجرتين الكبيرتين.. هي عروق من التين أيضاً، اجتمعت كلّها لتشكّل شجيرة، يمكن أن تدخل وتختبىء بين فروعها، ولا يمكن أن تُرى بسبب أوراقها الكبيرة والكثيفة، عندما ولجت إليها، اكتشفت أنها على صغرها تحمل ثماراً، لكنها أكواز صغيرة جداً نسبة للأكواز التي تقطف من الشجرة الكبيرة .. ظنّت بداية أنها لم تنضج بعد، لكن لفتها لونها العاجي الذي يناديها.. قطفت أحدها، كان طرياً.. شهيّ المنظر، وعندما تذوّقته كان طعمه أشهى من العسل.. فجدَّت في طلب المزيد.. قطفت كوزاً آخراً وقالت للمرأة التي أصبحت واقفة جنبها "انظري يا خالتي، كم هو صغير.. لكنه لذيذ".ابتسمت المرأة لاكتشاف قريبتها البريء وهي تقول " هيا استعدّا علينا أن نغادر" "فلنبقَ بعض الوقت" أجابتها برجاء وتابعت "أريد أن أقطف المزيد من هذه الشجرة الصغيرة" "ليست كلها ناضجة، كما أنها لا تحمل سوى القليل.. ربما في مشوار آخر يا عزيزتي، تكون قد نضجت".
غادر الثلاثة كروم العنب والتين، لكن منظر ذلك الكوز الصغير الناضج لم يغادر مخيّلتها أبداً.. ليس لطعمه اللذيذ وحسب، فهي قد تذوّقت كثيراً من الأطعمة اللذيذة ولم ترسخ في مخيّلتها بهذا الشكل.. لكن شكله الغريب عن طبيعة ثماره، ونضجه على الرغم من صغره وأشياء أخرى لا تعرفها جعلتها تحفظ شكل ذلك الكوز من التين، وتبحث عنه في كل مكان وزمان..
****
مرّت السنون وبقي الأمر ذكرى.. وحتى الآن لم تجد شبيهاً لذاك الكوز!....
إلاّ أن هذه السنين لم تمحُ حب الطبيعة من قلبها، لا بل أنها زادتها هياماً وعشقاً لأسرار جمالها الخلاّق.
كانت في الثانية عشر من عمرها عندما اتّفقت مع صديقتيها على القيام برحلة إلى الحقل القريب في قريتهم الوادعة..
حملت كلّ واحدة منهن كيساً في يدها، كي يجمعن بعض الأعشاب البرّية النافعة كالكبار، ربما في محاولة منهن لإثبات ذواتهن، وسرن باتجاه الحقل..
الطريق غير معبّدة، يكسبها جمالاً غريباً بعض الأحجار المتفرقة هنا وهناك وقد بدت متشبِّثة بالإرض صعبة الإقتلاع، تدثِّرها بعض الأعشاب التي وزّعت حولها اللون الأخضر.. أما أشجار الزيزفون التي امتدّت على جانبي الطريق فقد كانت تستوقفها كثيراً لتملي النظر من جمال زهرها على صغر حجمه برائحته النفّاذة التي تنعش القلوب وأغصانها التي تملأها أشواك قاسية تحذِّر كل من يقترب منها بأنها قد تدمي يديه...
تابعن المسير ببراءة الطفولة التي بدأت تمتزج بمعالم الفتوّة، فرحات مزهوّات وقد امتلأن نشاطاً وحيوية حتى وصلن إلى ذلك النبع الذي يفجّر ماءه صاخباً ويشقّ درباً له مع جانب الطريق ويجعل الأرض من حوله موحلة بالرغم من كثرة الحشائش التي عرّشت على جانبي المجرى.. ومنها تلك الأعشاب البرّية التي جئن يبحثن عنها، فهي تنبت بجانب الماء ك " النعنع البري" و "الجرجير" ..
أخذن يتسابقن، كل تريد أن تملأ كيسها لتفرح والدتها بما أحضرت..
كان "السُعد"، وهو نوع من العشب البرّي أوراقه طويلة أبرية الشكل أيضاً يحب الماء وينمو حيث يوجد بكثرة، كان يملأ المكان ويزيده جمالاً برونق اخضراره..
وكانت الواحدة تقول للأخرى: "حاذري من الغرق فالأرض موحلة جداً.."
كان كلّ شيء في هذا الحقل ناطق يضجّ بالحياة، يُعبِّر عن ذاته بذاته..
***
سنون أخرى مرّت... ابتعدت الطفلة البريئة والفتاة المليئة بالحياة عن قريتها طويلاً، ولكن السؤال لم يفارقها: هل ما زال المكان هو ذلك المكان؟ وهل إذا تغيّر الزمان يبقى المكان كما يريده الناس في مخيلتهم أن يكون؟
هي لا زالت هي.. تحب الطبيعة بجنون.. ولكنّها أيضاً غيّرتها السنون، فقد كبرت ولم تعد طفلة، وما زالت تبحث عن تلك الطبيعة الخلاّبة بوجودها البريء.. لكن الزمان لم يبقِ منها سوى ذلك الطريق الذي جفّت عروقه حتى تغطّت أحجاره بالغبار بدلاً من تلك العشيبات النضرة.. أما أشجار الزيزفون فلا تعرف كيف اختفت... وأي أيادٍ اجتثتها من الجذور...
حتى ذلك النبع لم يعد نبعاً... وبات المكان موحشاً سوى من زرقة السماء وعواميد الكروم التي انتشرت هنا وهناك وكأنها شنت حملة عشواء على ذلك الحقل فلم تبقِ شيئاً فيه سواها!كبرت الفتاة، وهرم الحقل، ولم تبق اللوحة التي أبدعها الخالق كما ترسمها مخيلة الطفلة الصغيرة، فهل يمكن أن يعود الحقل ناطقاً؟
ماجدة ريا