Saturday, September 13, 2008

وعاد رشاد

كانت السنوات تزحف بطيئة حاملة السيدة وداد نحو العجز.
كرهت دائماً تلك الكلمة، لكنها لم تستطع أن تمنع العمر من أن يجري وراءها بشكل حثيث، وهو يحمل كل معاني هذه الكلمة المخيفة، كانت أمنيتها دائماً أن تسلم الروح قبل كل ذلك، لكن شيئاً واحداً كان يجعلها تتشبّث بالبقاء حيّة تنتظر...
رشاد، كان آخر العنقود، ذلك الطفل المدلل الذي غدا يافعاً فجأة، شديد العود، قوي البنية، كم كانت تعتز به عندما كان يتباهى بعضلاته المفتولة وهو ما زال في ريعان الشباب، كانت تعتز كما لو كانت هي صاحبة العرض والعضلات، فتبتسم له وتسأله :
"لِمَ تربّي كل هذه العضلات يا رشاد؟ هل ستلعب "المصارعة؟".
يقهقه ضاحكاً وهو يعيد كلمتها الأخيرة "المصارعة... نعم المصارعة، لكن ليست تلك التي ترينها عبر شاشات التلفاز!".
"لم أفهم؟".
"أماه! أمامنا عدو شرس، ويحتاج أن نتعلّم أمامه كل فنون القتال والمصارعة للقضاء عليه".
"من تقصد؟ العدو الصهيوني؟".
"نعم يا أماه! أما ترَين ماذا يجري في فلسطين المحتلّة؟ وكيف يعيث فيها فساداً!".
"ولكن فلسطين بعيدة جداً عنا؟ وبيننا وبينها بحار ومسافات.. كيف ستذهب إلى هناك؟".
يبتسم وهو يجيبها "لن أعدم وسيلة، سأفعل أي شيء يمكن أن يوصلني إلى هناك..".
"وهل أضمن أنك ستعود لو ذهبت إلى هناك؟ أما ترى ما يحدث فيها من موت ودمار؟".
ما زالت تتذكّر وقفته الشامخة تلك ورأسه المرفوع وهو يبتسم لما قالت، فما أراد أن يخيفها بقوله:
"وهل أنا ذاهب لأعود؟ سأقاتل أعداء الله حتى الشهادة".
كان يعلم أن ذلك سيكون قاسياً جداً على قلبها المتعلّق به، فصمت، واكتفى بأن ربّت على كتفها وهو يبتسم.
سعى إلى ذلك كسعيه وراء الحلم، حتى كان أن فقدته ذات يوم ولم تجد منه سوى تلك الرسالة التي ما زالت تشمها كل يوم وتضمها إلى صدرها برغم مرور السنوات الثماني والعشرين، ما زالت تشم رائحته فيها وهو الذي لم يعد إلى أرضه ولو محمولاً على أكف الرجال!
كانت دائماً تتمنّى استمرارية الحياة فقط لتعيش على حلم عودته، تحلم أن يعود إلى أحضان ذلك التراب الذي طالما استذكر صورته، وطالما تساءل عن مصير تلك العضلات المفتولة. أعوامها السبعون جعلتها تبدو كأنّها في التسعين من العمر، ففي كل سنة من غيابه عنها كانت تكبر سنوات تخطّ تجاعيدها وتحفر أثرها على وجهها، وتشد ظهرها أكثر فأكثر نحو عكّازها الذي يساعدها على حمل جسدها المتضائل مع الأيام.
أكثر ما كان يزعجها في رحلة عمرها تلك الهمسات التي كانت تسمعها من هنا وهناك، حتى من أقرب المقربين: "هل حقاً تنتظرين أن يعود ذات يوم؟".
كان واضحاً أن تلك الهمسات كانت تحمل في طيّاتها الكثير من الاستحالة المغلّفة بسخرية مريرة، فتشعر بوخزة ألم في صدرها، وتجيب بثقة غريبة: "الله كبير!".
ها هو غسّان حفيدها يركض ليرتمي في أحضانها بعد كل تلك السنوات الطوال، يحضنها، يمسك وجهها بين يديه، ويثبّت نظراته في وجهها الذي اعتلى محياه الاستغراب:
"هل تظنين أن عمي رشاد سيعود؟!".
لم يكن الاستغراب من السؤال بقدر ما كان من طريقة طرحه والحركات التي رافقته، لأنها كانت تنبئ بشيء ما ربما أحسته في الآونة الأخيرة، شيء من الارتياح الغامض والانتظار لحدث لم تستطع إدراكه.
"الله يعطيني خيرك؟ ماذا وراءك يا غسّان؟".
قالت ذلك بصوت مرتجف وأردفت: "ما الذي فكّرك في هذا الموضوع الآن؟".
"حدث عظيم يا جدّتي! عظيم إلى درجة لم نكن نحلم بها!... لكن أنت! لطالما كان هذا حلمك!".
"أنا لا أفهم شيئاً مما تقول؟".
"جثمان عمي رشاد سيعود يا جدتي.. جثمان عمي رشاد سيعود".
"ماذا تقول؟ وكيف سيعود".
"سأشرح لك كل شيء..".
جلس قربها وهو يحتضن يديها الباردتين، ويمسح دموعها الحارة عن وجنتيها المتجعّدتين، وأخذ يخبرها عن المقاومة الإسلامية في لبنان، يذكّرها بانتصار أيار 2000 وانتصار تموز 2006، ذلك الانتصار الذي زغردت له برغم بُعدها لأنه انتقم لها من أشد أعدائها، وشعرت من خلاله انها انتقمت لدماء رشاد على يد هؤلاء الأبطال، ولكن ما لم تكن تعرفه أنها أيضاً ستشارك في حصد ثمار ذلك الانتصار..
أخبرها أن المقاومة الإسلامية في لبنان، ورجال حزب الله الأبي، قد أجروا صفقة تبادل على الأسيرين اللذين اتخذهما العدو الصهيوني ذريعة لشن عدوان تموز الخائب على لبنان وما استطاع تحريرهما، أو حتى معرفة أي شيء عنهما، وأن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قد صدق في وعده كما في كل مرة، بأن الأسيرين لن يعودا إلا بصفقة تبادل عبر مفاوضات غير مباشرة، وقد أصرّ أن تشمل الصفقة أجساد كل الشهداء اللبنانيين والعرب إضافة إلى كل الأسرى اللبنانيين الأحياء، وها هي هذه الصفقة تتم بإذن الله وببركة دماء الشهداء التي لا تثمر إلا الانتصار.
زغردت... نعم زغردت، وخرجت مسرعة نحو الردهة حيث جلس الجميع ينتظر، وقفت في الباب، وزغردت من جديد.
كل الأنظار توجّهت نحوها، وغسّان حفيدها لحق بها ووقف خلفها، خشية أن يصيبها شيء من شدة الفرح الممزوج بحزن دفين، لكنها بقيت متماسكة، وعلا صوتها مترجرجاً في المكان:
"أما قلت لكم إنه سيعود يوماً؟!.. هيا، قوموا أعدوا حفل استقباله، هيّئوا له عرس الشهادة الذي استحقّه...
الآن سيرتاح قلبي، وسأطمئنّ إلى أنّ قرة عيني سيرقد في جواري بسلام...".
وأغمضت عينيها، وأسلمت الروح.
ماجدة ريا

No comments: